أمل كانت شابّة من جيراني ، ولدت طفلاً بمتلازمة داون ولأجل ذلك ولعدم الرضا بما قدره الله تركها زوجها مع ابنها الوحيد دون عون ، وكان الحصار يُلقي بظلاله المعتمة على تفاصيل حياتنا ولاقى الناس من العوز ما لاقوا ، هناك من تذمر وندب حظه وهناك من كتم طوفان اوجاعه في قلبه ، كانت تهرول باحثة عن ولدها حين يغافلها ويهرب وتسأل عنه لاهثة حتى تجده فتهدأ روحها وتمسح دمعها .
التقيتها لآخر مرة صدفة في الشارع وكانت برفقة عكاز واخبرتني بأن آلامها قد اصبحت لا تُحتمل فقبلتها وتمنيت لها الشفاء .بعدها شاءت الظروف ان اغادر بغداد لمدة سنة وبضعة اشهر ، وعدت وسألت عنها فوجدتها مريضة وعلى فراش لا تكاد العين تميز لون غطائه ، وجانب بطنها منتفخ وهناك ورم ظاهر للعيان وباقي جسدها يبدو عليه النحول ، وخيل لي ان المنديل الذي مسحت به دموعي كان بلون مفرشها .
ومضت الايام وانا اعودها في فترات متباعدة وبما يسمح لي وقتي واعصابي التي تكاد تنهار كلما رأيتها ، وفي صبيحة يوم مشمس كنت قد اعددت نفسي لعمل كمية من ( اللحم بعجين ) وكانت يدي غارقة في خليط الطحين والماء سمعت صراخاً ، ماتت أمل !
لاول مرة احسست وكأن أوجاع المعذبين في الأرض كلها في قلبي ، اقترحت على والدتها أن نغسلها في البيت فرفضت ، فنظرت اليها متسائلة .. لماذا !؟ اجابتني بأن المغتسل العام أفضل لإبنتها ، فسكتُ على مضض واخذت أقلّب ناظري بين الوجوه الملتاعة لكن لا أحد يرضى ان يذهب بها معي لاستحصال موافقة الدفن وقبلها الى المغتسل سوى شقيقة لها ونحن الاثنتان غير قادرتان بمفردنا على هذه المهمة العسيرة ، وتمتمت في سرّي من يرضى ان يصطحب امرأة فقيرة الى مثواها الاخير ، قلت لمن حضر بأني سأذهب معها ، وكان ان رافقتنا جارة أخرى من جيراني ، واتصلت بصديقة لي وسلمتها مفاتيح بيتي لان اولادي سيعودون من المدرسة بعد حين ، ولا ادري لماذا اخذت معي كل هذه الكمية الكبيرة من لفائف القطن وبعض اوراق من شجرة السدر التي كانت في حديقتنا ،
رافقت الجثمان الى مُغتسل باب المعظم برفقة بعض التقارير الطبية الخاصة بالفقيدة والتي تثبت وضعها الصحي وتؤكد وفاتها طبيعياً ، وكنت أحدث نفسي واقول : مَنْ سيهتم بوفاة مريضة بمرض عضال والعشرات يموتون يومياً جوعاً وقهراً ، ودخلنا بالسيارة التي تحمل الجثمان الى مغتسل كل ما فيه يُنبئ بالحزن وجدران عارية مكتوب عليها بعض العبارات التي تذكّر الناس بأنهم سيموتون يوماً ، وكانت هناك امرأة تتولى شأن المغتسل وهي ضخمة البنيان باردة الملامح بادرتني فورا بعبارة : ادخلي معي انتِ فقط ، يا للهول ، أنا ؟
انا ابكي لو سقط عصفور صغير من العش فكيف سأعرض نفسي لهذا الموقف الجلل وربما اختارتني لاني أول من نزل من السيارة وتمنيت بداخلي لو انني تأخرت ، دخلت الغرفة التي يتم فيها تغسيل الموتي وكانت عبارة عن غرفة متسعة تتوسطها دكة مرتفعة بعض الشيء وحوض من الاسمنت الردئ الصنع فيه صنبور للماء واناء معدني كبير يتوسط الحوض فيه اناء اصغر لغرف الماء وعلى حافة الحوض بعض من قطع الصابون ، يا إلهي ، حاولت التماسك بمواجهة رهبة الموت والموقف وبدأت المغسلّة عملها وكأنها مجرد آلة صماء أمرتني بصب الماء على شعر الفقيدة بعد ان وضعت اوراق السدر التي اخرجتها من حقيبتي دون وعي ولمحت إحداها كانت ذات اخضرار غريب بقيت ملتصقة بشعرها الطويل ،
وانتابتني قشعريرة لكل هذا النور الذي غمر المكان وسطع على جسدها الذي عاد طفلاً في زمن غادرتنا به المعجزات وكأنها لحظات تجلت فيها كرامات الله للفقراء.
وحاولت السيدة المغسلّة ان تقلب جسدها المبلل وطلبت مني مساعدتها ، عاونتها وقلبتها واذا بأحدى كليتيها تظهر للعيان في قرحة فراش صعبة للغاية ، ادركت لحظتها لماذا هداني الله لجلب كل تلك اللفائف من القطن وبكيت بحرقة خريف تساقطت دموع اوراقه وكما لم أبكي من قبل رحمة بها وخوفاً مما سيحدث عند تكفينها ، وانتبهت لوجود الكثير من الدم الذي حاولنا بعدها تفادي تلطيخه لكفنها ، وعذرت والدتها لانها لم توافق على تغسيلها في البيت بعد معرفتي للسبب ، كانت الدقائق تمر على قلبي بخشوع وانا أتمتم ببعض الآيات والأدعية وأسال الله الرحمة والقوة والصبر ، واكملنا تجهيزها ووضعت بيدي الكثير من شرائح القطن على الفتحة التي في ظهرها وطلبت من الله في دعاء مكتوم ان لا يظهر على كفنها شيء من دمها ، واقترحت امرأة غريبة كانت مرافقة للمرأة المغسلّة ان تدفن ملفوفة بغطاء من البلاستيك فرفضت ولم أجد لرفضي مبرراً ، كنت موقنة فقط باجابة دعائي بأن الله لابد ان يرحمها ويسترها.
خرجت الى ضوء النهار الذي انتصف وبقيت ومن معي ننتظر سيارة اخرى تنقلها الى المقبرة . حدثتني شقيقتها وهي تبكي بأن أمل قد رأت رؤيا قبل ايام ، كانت قد رأت النبي صلّ الله عليه وسلم وابلغها بأنها ستتخلص من الآمها قريباً وعليها ان تغتسل ببعض اوراق شجرة السدر وانها ستنتقل الى مكان آخر وانه صلّ الله عليه وسلم لايريد ان تذهب لهذا المكان الا بثوبها الابيض وسيكون تحت شجرة وان هناك غصناً سوف يتدلى عليها !
ياربي لفائف القطن وجلبتها واوراق السدر ايضاً .. يا للعجب .لأصبر وارى ما تبقّى من علامات تلك الرؤيا التي رأتها أمل .
طال انتظارنا لسيارة النقل وكان هناك صداع مرير اشعر به يكاد يجعلني اصرخ وكنت أضع يدي على جبهتي متألمة فطلبت مني شقيقتها العودة الى بيتي ورفضت ولا اتذكر ان كنت قد أخذت وقتها حبة لإسكات الألم ام لا فكل ما كان بذهني هو اكمال مهمتي ومهما كان الثمن ، وجاء سائق السيارة التي ستقلنا برفقة الفقيدة الى مقبرة الكرخ وهي بعيدة نسبياً عن مركز المدينة ، ووصلنا قرابة العصر ووجدنا بعض الرجال وبضمنهم زوج شقيقتها الذي سمع بالخبر بعد عودته من العمل وذهب للمقبرة لتهيئة مكان الدفن ، كانت هناك الكثير من الاراضي الجرداء وقيل لي بعد سنوات انها اصبحت عامرة بالقبور وامتدت لمساحات اخرى ،
وكأن الموت كان ولا يزال عراقياً بامتياز!
وضع بعض الرجال التابوت على الارض قريباً من القبر الذي كانوا مستمرين بحفره ، وكنت بحاجة لبعض الهواء بعد ان شعرت بأن الريح تأتي بالتراب المتطاير نحو الجهة التي كنا نقف عندها ، فاخذت اتجول قرب بعض القبور واقرأ شواهدها فاسترعى انتباهي قبر تم بنائه بطريقة هندسية جميلة بطابوق أصفر اللون ويبدو كأنه كان مغسولاً هذا الصباح ، توجهت نحوه وقرأت شاهد القبر الذي كُتب عليه :
هنا ترقد الشابة فلانة بنت فلان والتي توفيت بحادث سير وقرأت تاريخ ولادتها وكانت تبلغ من العمر يوم وفاتها السادسة عشرة ،
ياربي هل انا بحاجة للمزيد من الحزن ؟
لفت نظري اوراق مطوية موضوعة بطريقة لاتكاد تلحظها العين ، انتابني الفضول وسحبت احداها بصعوبة حتى كاد اظفر سبابتي ينكسر ، وفتحتها وياليتني لم أفعل ، كانت رسالة حب من أجمل ما يكتب المحبين ، قرأت بقلبي وروحي ما فيها من سطور ، كانت رسالة من شاب متيم يقول لها ما معناه ان اليوم سيكون هو يوم عيد ميلادها العشرين لو كانت على قيد الحياة وانه لم يستطع نسيانها وفي كل عيد ومناسبة سيبقى يزور قبرها ويجدد لها عهد محبته وانه لن يتخلى عنها وان الموت فشل في ان يفرقهم.
طويت الورقة واردت ان ادسها في حقيبتي لكنني انتبهت الى ان ذلك ليس من حقي .فاعدتها الى مكانها وسحبت رسالة اخرى جاءت بيدي بسهولة وكأن القبر يأذن لي بالاطلاع لأنني حفظت أمانتي واعدت الرسالة الأولى الى مكانها ، فتحتها وانا أنظر الى قبر أمل والذي سيتم اكمال حفره قريبا ،
قرأت وكانت روحي تسيل من عيني دمعاً ،
كان هذه المرة يتحدث عن طريق ذهابها لمدرستها الثانوية ويصف زيها المدرسي بدقة بالغة وحذائها الابيض وجواربها وكيف نظرت اليه ذات مرة ويصف النظرة ومعانيها ، كانت الورقة مبتلة هذه المرة من دمعه وليس من دمعي ، كان يبكي من خلال السطور ولا أحد يجفف له دمعة .
رسالة ثالثة كان يعتذر فيها ويبلغها انه لم يأتي منذ فترة بسبب مرضه الشديد وانه سيعوضها بزيارة اخرى على غير المعتاد في المناسبات ويطلب منها ان لا تغضب منه .
اعدت كل الرسائل التي قرأتها وبعين متفحصة وجدت الكثير لازال مغروساً بين هندسيات الطابوق .
فكرت ان اكتب له سطرين على عجالة واقول له ان يسامحني لاني صدفة وجدت بعض رسائله وقرأءتها لكنني عدلت عن الأمر لسببين . الاول اني لم احتفظ بقلم وورقة في حقيبتي والثاني كنت سأعتدي على كل هذه القدسية النادرة الوجود .. واقنعت نفسي بذلك .
عدت الى قبر أمل الذي سيكون مثواها الاخير وفتحوا التابوت وطلبت من شقيقتها ان يحرروا الجثمان من قطعة البلاستيك التي وضعت اسفله ، فخرجت بيضاء للناظرين تزهو بكفن أبيض ناصع ، طفلة الضوء والبريق .
اهالوا على جثمانها وعلى شيء كبير من روحي التراب .
ودعتها وانا التفت فاذا بمثواها تحت شجرة وارفة الظلال وهناك غضن اخضر كبير يتحدى الخريف متدلياً على قبرها !
التقيتها لآخر مرة صدفة في الشارع وكانت برفقة عكاز واخبرتني بأن آلامها قد اصبحت لا تُحتمل فقبلتها وتمنيت لها الشفاء .بعدها شاءت الظروف ان اغادر بغداد لمدة سنة وبضعة اشهر ، وعدت وسألت عنها فوجدتها مريضة وعلى فراش لا تكاد العين تميز لون غطائه ، وجانب بطنها منتفخ وهناك ورم ظاهر للعيان وباقي جسدها يبدو عليه النحول ، وخيل لي ان المنديل الذي مسحت به دموعي كان بلون مفرشها .
ومضت الايام وانا اعودها في فترات متباعدة وبما يسمح لي وقتي واعصابي التي تكاد تنهار كلما رأيتها ، وفي صبيحة يوم مشمس كنت قد اعددت نفسي لعمل كمية من ( اللحم بعجين ) وكانت يدي غارقة في خليط الطحين والماء سمعت صراخاً ، ماتت أمل !
لاول مرة احسست وكأن أوجاع المعذبين في الأرض كلها في قلبي ، اقترحت على والدتها أن نغسلها في البيت فرفضت ، فنظرت اليها متسائلة .. لماذا !؟ اجابتني بأن المغتسل العام أفضل لإبنتها ، فسكتُ على مضض واخذت أقلّب ناظري بين الوجوه الملتاعة لكن لا أحد يرضى ان يذهب بها معي لاستحصال موافقة الدفن وقبلها الى المغتسل سوى شقيقة لها ونحن الاثنتان غير قادرتان بمفردنا على هذه المهمة العسيرة ، وتمتمت في سرّي من يرضى ان يصطحب امرأة فقيرة الى مثواها الاخير ، قلت لمن حضر بأني سأذهب معها ، وكان ان رافقتنا جارة أخرى من جيراني ، واتصلت بصديقة لي وسلمتها مفاتيح بيتي لان اولادي سيعودون من المدرسة بعد حين ، ولا ادري لماذا اخذت معي كل هذه الكمية الكبيرة من لفائف القطن وبعض اوراق من شجرة السدر التي كانت في حديقتنا ،
رافقت الجثمان الى مُغتسل باب المعظم برفقة بعض التقارير الطبية الخاصة بالفقيدة والتي تثبت وضعها الصحي وتؤكد وفاتها طبيعياً ، وكنت أحدث نفسي واقول : مَنْ سيهتم بوفاة مريضة بمرض عضال والعشرات يموتون يومياً جوعاً وقهراً ، ودخلنا بالسيارة التي تحمل الجثمان الى مغتسل كل ما فيه يُنبئ بالحزن وجدران عارية مكتوب عليها بعض العبارات التي تذكّر الناس بأنهم سيموتون يوماً ، وكانت هناك امرأة تتولى شأن المغتسل وهي ضخمة البنيان باردة الملامح بادرتني فورا بعبارة : ادخلي معي انتِ فقط ، يا للهول ، أنا ؟
انا ابكي لو سقط عصفور صغير من العش فكيف سأعرض نفسي لهذا الموقف الجلل وربما اختارتني لاني أول من نزل من السيارة وتمنيت بداخلي لو انني تأخرت ، دخلت الغرفة التي يتم فيها تغسيل الموتي وكانت عبارة عن غرفة متسعة تتوسطها دكة مرتفعة بعض الشيء وحوض من الاسمنت الردئ الصنع فيه صنبور للماء واناء معدني كبير يتوسط الحوض فيه اناء اصغر لغرف الماء وعلى حافة الحوض بعض من قطع الصابون ، يا إلهي ، حاولت التماسك بمواجهة رهبة الموت والموقف وبدأت المغسلّة عملها وكأنها مجرد آلة صماء أمرتني بصب الماء على شعر الفقيدة بعد ان وضعت اوراق السدر التي اخرجتها من حقيبتي دون وعي ولمحت إحداها كانت ذات اخضرار غريب بقيت ملتصقة بشعرها الطويل ،
وانتابتني قشعريرة لكل هذا النور الذي غمر المكان وسطع على جسدها الذي عاد طفلاً في زمن غادرتنا به المعجزات وكأنها لحظات تجلت فيها كرامات الله للفقراء.
وحاولت السيدة المغسلّة ان تقلب جسدها المبلل وطلبت مني مساعدتها ، عاونتها وقلبتها واذا بأحدى كليتيها تظهر للعيان في قرحة فراش صعبة للغاية ، ادركت لحظتها لماذا هداني الله لجلب كل تلك اللفائف من القطن وبكيت بحرقة خريف تساقطت دموع اوراقه وكما لم أبكي من قبل رحمة بها وخوفاً مما سيحدث عند تكفينها ، وانتبهت لوجود الكثير من الدم الذي حاولنا بعدها تفادي تلطيخه لكفنها ، وعذرت والدتها لانها لم توافق على تغسيلها في البيت بعد معرفتي للسبب ، كانت الدقائق تمر على قلبي بخشوع وانا أتمتم ببعض الآيات والأدعية وأسال الله الرحمة والقوة والصبر ، واكملنا تجهيزها ووضعت بيدي الكثير من شرائح القطن على الفتحة التي في ظهرها وطلبت من الله في دعاء مكتوم ان لا يظهر على كفنها شيء من دمها ، واقترحت امرأة غريبة كانت مرافقة للمرأة المغسلّة ان تدفن ملفوفة بغطاء من البلاستيك فرفضت ولم أجد لرفضي مبرراً ، كنت موقنة فقط باجابة دعائي بأن الله لابد ان يرحمها ويسترها.
خرجت الى ضوء النهار الذي انتصف وبقيت ومن معي ننتظر سيارة اخرى تنقلها الى المقبرة . حدثتني شقيقتها وهي تبكي بأن أمل قد رأت رؤيا قبل ايام ، كانت قد رأت النبي صلّ الله عليه وسلم وابلغها بأنها ستتخلص من الآمها قريباً وعليها ان تغتسل ببعض اوراق شجرة السدر وانها ستنتقل الى مكان آخر وانه صلّ الله عليه وسلم لايريد ان تذهب لهذا المكان الا بثوبها الابيض وسيكون تحت شجرة وان هناك غصناً سوف يتدلى عليها !
ياربي لفائف القطن وجلبتها واوراق السدر ايضاً .. يا للعجب .لأصبر وارى ما تبقّى من علامات تلك الرؤيا التي رأتها أمل .
طال انتظارنا لسيارة النقل وكان هناك صداع مرير اشعر به يكاد يجعلني اصرخ وكنت أضع يدي على جبهتي متألمة فطلبت مني شقيقتها العودة الى بيتي ورفضت ولا اتذكر ان كنت قد أخذت وقتها حبة لإسكات الألم ام لا فكل ما كان بذهني هو اكمال مهمتي ومهما كان الثمن ، وجاء سائق السيارة التي ستقلنا برفقة الفقيدة الى مقبرة الكرخ وهي بعيدة نسبياً عن مركز المدينة ، ووصلنا قرابة العصر ووجدنا بعض الرجال وبضمنهم زوج شقيقتها الذي سمع بالخبر بعد عودته من العمل وذهب للمقبرة لتهيئة مكان الدفن ، كانت هناك الكثير من الاراضي الجرداء وقيل لي بعد سنوات انها اصبحت عامرة بالقبور وامتدت لمساحات اخرى ،
وكأن الموت كان ولا يزال عراقياً بامتياز!
وضع بعض الرجال التابوت على الارض قريباً من القبر الذي كانوا مستمرين بحفره ، وكنت بحاجة لبعض الهواء بعد ان شعرت بأن الريح تأتي بالتراب المتطاير نحو الجهة التي كنا نقف عندها ، فاخذت اتجول قرب بعض القبور واقرأ شواهدها فاسترعى انتباهي قبر تم بنائه بطريقة هندسية جميلة بطابوق أصفر اللون ويبدو كأنه كان مغسولاً هذا الصباح ، توجهت نحوه وقرأت شاهد القبر الذي كُتب عليه :
هنا ترقد الشابة فلانة بنت فلان والتي توفيت بحادث سير وقرأت تاريخ ولادتها وكانت تبلغ من العمر يوم وفاتها السادسة عشرة ،
ياربي هل انا بحاجة للمزيد من الحزن ؟
لفت نظري اوراق مطوية موضوعة بطريقة لاتكاد تلحظها العين ، انتابني الفضول وسحبت احداها بصعوبة حتى كاد اظفر سبابتي ينكسر ، وفتحتها وياليتني لم أفعل ، كانت رسالة حب من أجمل ما يكتب المحبين ، قرأت بقلبي وروحي ما فيها من سطور ، كانت رسالة من شاب متيم يقول لها ما معناه ان اليوم سيكون هو يوم عيد ميلادها العشرين لو كانت على قيد الحياة وانه لم يستطع نسيانها وفي كل عيد ومناسبة سيبقى يزور قبرها ويجدد لها عهد محبته وانه لن يتخلى عنها وان الموت فشل في ان يفرقهم.
طويت الورقة واردت ان ادسها في حقيبتي لكنني انتبهت الى ان ذلك ليس من حقي .فاعدتها الى مكانها وسحبت رسالة اخرى جاءت بيدي بسهولة وكأن القبر يأذن لي بالاطلاع لأنني حفظت أمانتي واعدت الرسالة الأولى الى مكانها ، فتحتها وانا أنظر الى قبر أمل والذي سيتم اكمال حفره قريبا ،
قرأت وكانت روحي تسيل من عيني دمعاً ،
كان هذه المرة يتحدث عن طريق ذهابها لمدرستها الثانوية ويصف زيها المدرسي بدقة بالغة وحذائها الابيض وجواربها وكيف نظرت اليه ذات مرة ويصف النظرة ومعانيها ، كانت الورقة مبتلة هذه المرة من دمعه وليس من دمعي ، كان يبكي من خلال السطور ولا أحد يجفف له دمعة .
رسالة ثالثة كان يعتذر فيها ويبلغها انه لم يأتي منذ فترة بسبب مرضه الشديد وانه سيعوضها بزيارة اخرى على غير المعتاد في المناسبات ويطلب منها ان لا تغضب منه .
اعدت كل الرسائل التي قرأتها وبعين متفحصة وجدت الكثير لازال مغروساً بين هندسيات الطابوق .
فكرت ان اكتب له سطرين على عجالة واقول له ان يسامحني لاني صدفة وجدت بعض رسائله وقرأءتها لكنني عدلت عن الأمر لسببين . الاول اني لم احتفظ بقلم وورقة في حقيبتي والثاني كنت سأعتدي على كل هذه القدسية النادرة الوجود .. واقنعت نفسي بذلك .
عدت الى قبر أمل الذي سيكون مثواها الاخير وفتحوا التابوت وطلبت من شقيقتها ان يحرروا الجثمان من قطعة البلاستيك التي وضعت اسفله ، فخرجت بيضاء للناظرين تزهو بكفن أبيض ناصع ، طفلة الضوء والبريق .
اهالوا على جثمانها وعلى شيء كبير من روحي التراب .
ودعتها وانا التفت فاذا بمثواها تحت شجرة وارفة الظلال وهناك غضن اخضر كبير يتحدى الخريف متدلياً على قبرها !
إرسال تعليق