لقاء الرحيل

مشاهدات


 

بلقيس خيري شاكر البرزنجي

حين أشرقت الشمس في ذلك اليوم الربيعي كنت اول المستيقظين في البيت، اعدت ترتيب حقيبتي استعدادا للسفر الى محافظة نينوى لحضور المؤتمر السنوي لكلية طب الاسنان لجامعة الموصل، كنت مدعوا لالقاء محاضرة بصفتي تدريسي في جامعة القادسية كلية طب الاسنان....
لقد عاد شريط الذكريات يعصف بافكاري  وتذكرت قبل اربع عقود من الزمن وانا اتهيأ للسفر الى الموصل لقبولي في كلية طب الاسنان... كانت السعادة لاتسعني وانا احزم امتعتي واتفقد كل المستلزمات الضرورية التي احتاجها في القسم الداخلي للطلاب ...
كنت الابن الوحيد لعائلتي بين ثلاث اخوات، اتذكر ذلك اليوم مابين أحضان والدتي ودموع اخواتي ومشاعري المختلطة المبهمة الغريبة... ونصائح والدي لي ونظرات الرضا وملامح التفائل على وجهه وهو يقول: الحمد لله سأرى ثمرتي تزهر وافتخر بها ...
كانت رحلة السفر طويلة من مدينتي الديوانية الى بغداد ومنها الى الموصل.

في صباح اليوم التالي على وصولي الى الموصل ذهبت مع بعض الطلاب الذين تعرفت عليهم في القسم الداخلي، دخلت الجامعة وانا تغمرني لهفة كبيرة لمثل هذه الاجواء، سرت وانا احدق بكل الارجاء، حقا! تبدو كمدينة واسعة متحضرة، وهذا الاختلاط العجيب الذي أراه أمامي بين الطلاب والطالبات ، لقد نشأتُ في بيئة محافظة حيث العادات و التقاليد التي تمنع الاختلاط بين الجنسين لذلك لم اتحدث مع فتاة سابقا سوى اخواتي ... دخلت شعبة التسجيل لكي أسلم اوراقي، إذ لمحت بجانبي بنظرة خاطفة فتاة بيضاء بملامح رقيقة وشعر كستنائي يتموج على كتفيها وصليب ذهبي يتدلى على صدرها، وكان والداها معها يصطحبها لكي يكملوا إجراءات التسجيل، توترت قليلا وافسحت لهم المجال لتقديم الاوراق وسمعتها تقول : اسمي مريم جرجيس، عندما سألها موظف التسجيل عن اسمها،، كان صوتها ولفظها للكلمات بتنغيم موسيقي وبلهجة موصلية جميلة اثارت اعجابي، وظللت اختلس النظر اليها من حين الى آخر ..
وبعد عدة ايام ظهرت قوائم الاسماء وكان تسلسل اسمي بعد اسمها مباشرة وقد فرحت لهذه الصدفة الجميلة.
وهرع الطلاب و الطالبات باتجاه قاعة المحاضرات  وانا احدق النظر وابحث عن مريم في الوجوه واخيراً لمحتها من بعيد واسرعت الخطى وجلست بالكرسي المجاور لها ... يا إلهي تبدو مثل طائر جميل وجد عشه تجلس باعتدال وهدوء معتدة بنفسها، وبدأت تكتب المحاضرة باسترسال ولاتفوت حرفا من كلام الاستاذ ولكن لاحظت ارتباكها عندما توقف قلم الحبر الجاف عن الكتابة وبدأت تضغط بحركات سريعة على حافة الورقة عسى ولعل ان يعود للكتابة مرة اخرى ولكن دون جدوى، ومن حسن حظي كنت احمل معي قلم آخر قدمته لها، اخذتهُ مني بسرعة واستمرت بالكتابة ، وعند انتهاء المحاضرة أعادت لي القلم مع ابتسامة رقيقة وكلمة شكراً، ولكني قلت لها احتفظي بالقلم لباقي المحاضرات، وانتهزتُ الفرصة وعرفتها على نفسي : اني مؤيد من الديوانية. وسالتها عن اسمها رغم معرفتي به لكي اطيل الحديث معها، واجابتني :مريم من الموصل،،
 عندما نطقت اسمها شعرت بضربات قلبي كضربات الطبل ايذاناً ببدء الحرب...
...وتوالت الايام وكانت الأجواء الجامعية جميلة قليلاً وغريبة كثيرا بالنسبة لي كطالب في مرحلة أولى، وكنت انا ومريم تعودنا ان نجلس معا  في مقاعد متجاورة وتطور الموضوع من السلام الى الكلام و المناقشات البسيطة التي تخص دراستنا، ابهرتني شخصية مريم القوية وثقتها بنفسها كانت حازمة رغم ملامحها الطفولية..  وبمرور الايام شعرت ان مريم تتودد لي، ورغم مشاعري الفياضة اتجاهها الا اني كنت متحفظ بتصرفاتي معها ليس فقط بحكم عاداتي التي تمنعني من الاختلاط بأي فتاة وانما ايضا الصليب الذي يتدلى على صدرها يذكرني بالحاجز الذي يقف بيننا.

وذات يوم ومع اقتراب امتحانات الكورس الأول تعرضت مريم ل وعكة صحية وكانت تعاني من الام شديدة في الجهة اليمنى من بطنها.. اخذتها مع صديقتها سوزان الى المركز الصحي للجامعة، وكان تشخيص الطبيب اصابتها بالتهاب الزائدة الدودية وتم تحويلها للمستشفى لاجراء عملية جراحية عاجلة.. لذلك اعطتني رقم تليفون اهلها.. اتصلت على الرقم واعطيت سماعة الهاتف ل سوزان ابلغتهم بالموضوع.
وتمت العملية بنجاح.
وانقطت مريم عن الدوام بسبب الاجازة المرضية، كانت الايام تمر ثقيلة اصبحت مريم جزء من روحي، لقد انطفأت روحي بغيابها! وعجبت لنفسي هل معرفتي مريم شهرين فقط، كلا، كانما اعرفها العمر كله.
انتابني الحزن وكأن هموم الدنيا سقطت على راسي، وكنت بعد الدوام اهيم على وجهي واذهب قرب بيتهم في منطقة الساعة في الجانب الايمن، وفي احدى المرات اتصلت على التلفون ولكن اجابني صوت رجل فسارعت الى اغلاق الهاتف، ولكني لم افقد الامل واتصلت في اليوم التالي صباحا وكانت مريم على الطرف الآخر وتنفست الصعداء عندما سمعت صوتها تمنيت لها الشفاء العاجل وتحدثت معها عن لواعج صدري وقلت كلاما بارق العبارات، حتى انا استغربت من نفسي.

وبعد مدة وجيزة عادت مريم الى الكلية يا إلهي!!! عندما دخلت قاعة المحاضرة كأن روحا عادت إليٌَ..  تجمع الطالبات والطلاب حولها يهنئونها على سلامتها  وكنت قد حجزت لها الكرسي المجاور لي  وانتظر على احر من الجمر ان ينفض الجميع لكي امتع نظري بوجهها الملائكي . اقتربت مني والقت تحية الصباح، ابتسمتُ وقلبي يخفق بشدة.. بعد انتهاء المحاضرة تمشينا في الحديقة التفتت اليٌَ ثم قالت بأبتسامة :كم كانت فرحتي وانا اسمع صوتك دافئاً قوياً عبر اسلاك الهاتف لم أكن أعلم أنك تجيد الكلام المنمق يا مؤيد ...  اقتربتُ منها وقلت لها: ياأمنية قلبي، احبك اكثر من روحي ولكن كلمة أحبك كلمة كبيرة انها التزام بالعهد ومسؤولية ان لا نفصح عنها وأن نتحفظ بعض الشي ونكون اكثر حرصا عليها لان بعض الكلام حلاوته صمتا... بادرت بالقول: وانا ابادلك نفس المشاعر...

واصبحت احلامنا حقيقة..
انتهى العام الدراسي وعدت إلى عائلتي بعد غياب طويل.. كان استقبالهم لي يملؤه الفرح والسرور كعودة جندي إلى قريته بعد غياب طويل...
كانت العطلة الصيفية ثقيلة كئيبة سوى بعض الاتصالات الهاتفية الى مريم التي تخفف عني وطأة الفراق .

بعد انتهاء العطلة الصيفية كانت مريم في انتظاري عند بوابة الكلية.. عندما التقت نظراتنا خفق قلبي بشدة وتكلمت عيوننا بالاف الرسائل.. كان هناك تناغم بيني وبينها، تمنيت ان اخذها باحضاني واستنشق عبيرها.. امسكت يدها وانا القي السلام وكأنني ملكت الدنيا ومافيها ، شهقتُ!! ويح روحي!! كيف صبرت على هذا الفراق،، لقد أصبحت اجمل  ام تراني اراها هكذا، ولكنها دائما جميلة وانيقة.. كنت احمل اليها هدية صغيرة، فتحت العلبة وكان (دبوس بروش) على شكل زهرة، اتسعت ابتسامتها وسارعت بوضعه على قميصها الابيض.

   توالت الايام والشهور والسنين سريعا ونحن نعيش احلامنا الوردية ولانفكر في الغد، عشت اجمل اللحظات والساعات برفقة زملائي وحبيبتي مريم التي كان وجودها بجانبي بلسماً لروحي وقلبي ولكني رغم ذلك اشعر بالغصة كلما اتذكر اختلاف ديننا وتتوارد على خاطري اسوء الافكار التي تنغص عليَّ ايامي.

وبعد مرور اربع سنوات وفي العطلة الصيفية اتصلت مريم ودعتني لحضور حفلة زفاف اختها الكبيرة فيفيان، لبيت الدعوة وحضرت معهم مراسيم الزواج في الكنيسة وحفلة العرس في حديقة بيتهم، انبهرت بالاجواء الجميلة والاختلاف الجذري بين عاداتنا في كل شيء، وكنت الاحظ النظرات المريبة لكلينا من قبل اهلها، وكنت اتسأل مع نفسي هل يمكن ان يتقبل اهلها او اهلي فكرة زواجنا؟؟
تحدثت مع مريم في امر زواجنا، فقالت: انها تخاف من ردة فعل اهلها وانهم لايتقبلون زواج ابنتهم من غير ديانة.. واتفقنا ان نؤجل الموضوع بعد التخرج والعمل لكي اكون متمكن ماديا واستطيع السكن في الموصل.

وبعد اسبوع من رجوعي الى مدينتي وردني اتصال هاتفي من مريم، لم افهم من كلماتها المتقطعة سوى نشيج شهقاتها، ابتلعتُ ريقي بصعوبة وتوجست شرا واخيرا فهمت ان اهلها لم يرحبوا بفكرة علاقتنا ويرفضون زواجها من غير ديانة، وتوعدها ابيها بالويل ان لم تقطع هذه العلاقة ، وقد كان احد اقربائهم تقدم لخطبتها ويحاول اهلها اقناعها بشتى الطرق لتوافق على الزواج.
انتهت المكالمة واغلقت سماعة الهاتف وانا في حالة ذهول وغير مستوعب مايحدث.

وتحدثت مع والدي بشأن مريم
فقال لي: حاول اخراج نفسك من هذه العلاقة المضطربة.
اجبته:ولكني احبها بصدق وانوي الزواج منها
_ ياولدي الحب لايكفي لبناء اسرة هناك مقومات كثيرة والحب احدها وليس كلها
_ولكن ياابي.. كل الاديان تشجع على تأسيس الزواج على الحب والمودة والرحمة.
_ ياولدي.. ياتي يوم وتشعر بفتور الحب وتاخذك مشاكل الحياة وعلاقات الاقارب وتدخلهم في حياتك والعادات والتقاليد التي تتحكم باسرتها او اسرتك.
_ياابي.. لقد جمعنا الحب ومن المستحيل ان يفرقنا الدين.
_ياولدي.. التقارب بالعادات والتقاليد مهم لبناء الاسرة واستمرار الزواج.
_ولكن ياابي انا حر في اختيار من احب.
_نعم يابُني ولكنك ستتزوج وفق عرف الاهل والعشيرة.

استغفرت الله في سري وادركت بانه لاجدوى من النقاش  ولم يكن امامي سوى خيار واحد وهو ان انتظر الى حين تخرجي.

ثم انقطعت اتصالات مريم لعدة ايام وحاولت ان اتصل بها عدة مرات ولكن كان والدها يرد على الهاتف.. توجست شراً واتصلت باصدقائي بالموصل وعرفت منهم ان مريم اذعنت لقرار اهلها ووافقت على الخطوبة، وقع الخبر على رأسي كالصاعقة وتمنيت الموت على ان افقدها.

عندما بدأت السنة الدراسية الاخيرة لم اعرف كيف قضيتها، كنت المح مريم كئيبة منطفئة وقد اصبحت ملامحها صارمة، اما انا اصبح الالم ينهش روحي وفقدت شغفي بالحياة واصبحت استعجل الايام لتمر سريعا.
ولكني في داخلي لا الوم مريم واتمنى لها السعادة في حياتها، لانها لاذنب لها لقد خذلها اهلها والعرف والمجتمع.
لم تكن نهاية قصة حبنا غير مألوفة فهي نهاية طبيعية جدا عندما يأتي الحب صدفة ويقف الدين عائق في طريقه
لقد جمعنا الحب وفرقنا الدين.



0/أرسل تعليق

أحدث أقدم