فائزة محمد علي فدعم
كنت دائمة الابتسامة وسعادتي كانت اكبر بعد استجابة الوالد لمطالبتي بالذهاب الى سوق القصابين لجمع (الچعاب ) وهي احدى عظام الخروف الصغيرة التي كنا نلعب بها ونحن صغار . ولانهم يعرفونه طلب منهم ان يجمعوا لنا كمية منها لالعب بها وفي اليوم التالي نهضت مبكرة لاذهب لاستلامها لانهم وعدونا بجمعها وفعلا قدموا لنا كيسا منها وكانت فرحتي كبيرة حين شاهدت بالصدفة كيسا اخر اسمر اللون مملوءا بها وامسكته بيديّ الاثنتين لانه كان مثقوب من الجهة الثانية وانا حذرة جدا لئلا تسقط قطعة منه واتجهت صحبة والدي الى دكان الملا سلمان لشراء اصباغ مختلفة الالوان منها الاحمر والاصفر والاخضر وقد ساعدني في ذلك مساعده الولد الصغير والمحبوب من قبل الجميع لنباهته وذكائه وكان يلقب باسم ( بلبل ) وهو ساعده الايمن ...
اخذنا الاصباغ وعدنا الى البيت وانا اسرع الخطى لاني اكاد اطير من الفرح والوالد يبتسم . كانه يشاركني الفرحة وما ان دخلنا حتى استلمت والدتي العظام لصبغها فكانت تغلي الماء وتضع فيه الالوان الجميلة كلا على حدة ثم تضعها تحت الشمس حتى تجف وانا اواصل اللعب مع اصدقائي من البنين والبنات وكنا نقضي وقتا طويلا . كانت الالعاب المنتشرة في حينها بين الاطفال (طم خريزه وابوچعاب ) وبين الربح والخسارة تمر الساعات الطوال ونحن في سعادة غامرة وكانت الخاسرة تنسحب وتذهب للوقوف على جرف خريسان وبيدها وعاء صغير وتتوسل بالاولاد الذين يصطادون السمك لاعطائها واحدة صغيرة تلعب بها لتنسى خسارتها وفي شارعنا يمرُّ الباعة واصحاب المهن المختلفة وهم ينادون على بضاعتهم وصناعتهم ومنهم جراخ السكاكين وهو يحمل ماكنته الكبيرة على ظهره وينادي بصوت ذا ايقاع وكذلك نسمع اصوات متميزة اخرى كمصلح الفرفوري الذي يحمل عدته الصغيرة وبيده اله رفيعة كالابرة يثقب بها الاناء المكسور او القوري ليخيط بعضه ببعض وكانوا يرفعون اصواتهم امام الابواب وقد اعتادت والدتي ان تعطف عليهم وتقدم لهم من خلف ستارة الباب صحنا من العصيدة او الخبز الحار ومعه بعض الجبن والكرفس .
اما انا فكنت في تلك الايام اعاني من الخسارات المتتالية التي تصيبني بالحزن فاتجه الى لعبة الدگم . ومن المشهورات بها صديقتي ليلى وعندما كنت اخسر ايضا اذهب الى نهر خريسان ومعي الوعاء للحصول على السمكة الصغيرة التي كنت افرح بها كثيرا وكاني حصلت على جائزة نوبل وفي هذا الوقت مر بائع الزبيب وهو وينادي ويقول : (شربت زبيب واليندب الله مايخيب ) فاشتريت منه وشربت نصفه والباقي وضعته في اناء السمكة لتتغذى عليه وانا اشاهدها تلعب وتتحرك بسرعة فظننتها فرحة ولكنها وللاسف ماتت عصرا فحزنت لذلك وذهبت الى صديقتي المقربة ليلى لنلعب سوية وكانت بيدها ( دكم ) ازرار جميلة قطعتها من الملابس القديمة لنفرح بها ونلعب وكنت سعيدة بمشاهدتها بالوانها الزاهية وفي ذلك اليوم خسرت كعادتي وماكان مني الا الذهاب الى الجيران لاعطائي ازرار اخرى لالعب بها وصادف مجيء والدي وهو يحمل معه ملابس جديدة خيطت له عند احد الخياطين المشهورين في بغداد وقد راقبته وشاهدت على وجهه الفرحة والاعجاب بها وقد وضعها بعناية في دولاب الملابس الخاصة به وكانت غالية الثمن وفي احدى الايام التي خسرت فيها كل مالدي من ازرار وقلت حيلتي في الحصول على اخرى وانا متشوقة الى مواصلة اللعب خطرت في ذهني خطة جهنمية ولهذا انتظرت حتى خروج والدي عصرا الى مقهى البلم وبقيت فترة من الزمن اتابع والدتي وحركاتها في البيت حيث كانت تصنع حلاوة التمر بالكزبرة والدهن الحر لتوزيعها على الجيران ثواب لارواح الاموات وانتبهت الى صوت البريمز العالي الذي يحجب الاصوات جيدا فتسللت وتسلقت الدرج متجهة الى الغرفة الخاصة بوالدي واغلقت الباب باحكام ...
اتجهت الى الدولاب وفتحته وشاهدت البدلة الجميلة والاجمل ازرارها وبعناية دقيقة وبانتباه لئلا يدخل احد . قطعت بشفرة حادة كل الازرار التي كنت احدق بها كانت مثار اعجاب الجميع ومنهم والدي الذي كان احيانا يفتح الدولاب وينظر اليها ويبتسم لشدة جمالها وبعد ان اكملت المهمة بنجاح والهدف بيدي نزلت السلم دون ان يراني احد وكنت قد وضعتها في محارة قديمة جلبها جارنا لنا كهدية وكنت احملها بحذر كي لاتسقط من يدي ويفتضح امري وسبحان الله ولاول مره افوز باللعب مرة تلو الاخرى وفجأة عاد والدي وبيده (چرك وپيتا ام الجبن) فأرتبكت وخفت ولكني وجدت الحل وعرفت اين اضع المحارة والازرار فانطلقت راكضة الى (المجاز ) حيث يوجد فيه كرسيين وفراش وقمت بتخبئتها تحتها قبل ان يدخل ابي وكأن شئا لم يكن وعدت لارسم البسمة على وجهي واستقبله فاخذت منه بعض الچرك وقدمته الى صديقاتي اللاتي يراقبننا عند باب الدار ودارت الايام ولم يتطرق احد الى موضوع البدلة . الى ان قرر السفر الى الموصل في زيارة خاطفة لصديقه المحترم الشيخ ( نمل ) الذي كان يزورنا احيانا وكنت اضحك كلما سمعت اسمه لانه غريب وقد سعدت كثيرا لسفره لانه اعتاد ان يجلب لنا منها افضل الهدايا مثل ( علج المي والكرزات وجبن مصنوع من الحليب والخضروات بداخله يسمى جبن الوشاوي اضافة الى الطين خاوة ومن السما والحناء وقطعة ذهبية للوالدة التي كنت سباقة في الاستيلاء عليها قبل ان تراها )
وحين جاء موعد السفر وفتح الدولاب لارتداء ملابسه والرحيل صعق مما رأى وتبعته الوالدة . وجد الملابس الجديدة خالية من الازرار ومبعثرة . وهنا ادعو القارئ العزيز ان يتصور ما الذي جرى في بيتنا ذلك اليوم . اما انا فقد كنت أردد في اعماقي المقولة الشهيرة : ( فاز باللذات من كان جسورا )
إرسال تعليق