د.سعد سلوم
أطلقتُ في خاتمة كتابي "الأقليات في العراق 2013" تحذيرًا من ملامح الكارثة، التي تُحيق بنا بوصفنا عراقيين، وهي بداية النهاية بالنسبة إلى العراق. وفي نظري، ما هذه النهاية سوى نهايةِ فكرة العراق في حد ذاته، بوصفه ميراثًا حضاريًّا ودينيًّا وثقافيًّا تعدديًّا غيَّر وجه العالم القديم، ونهايةِ العراق الحديث الذي انطلق في عشرينيات القرن الماضي، في ظل تعايش الجماعات الدينية المختلفة وتآخيها. باختصار، قد تَعني الكارثة نهاية الوطنية العراقية المحلية، المستمَدَّة من الاعتزاز المشترك لجميع العراقيين/ات بالتراث الغني لبلاد ما بين النهرين. وأعتقد أن زيارة البابا فرنسيس للبلاد تُمثِّل فرصة أخيرة، محفِّزة لنا جميعًا، إلى عكس دينامية نهاية التنوع، واستعادة هذا الميراث، وبناء وطنية عراقية جديدة.
تَضمَّن اختيارُ العراق محطةً للزيارة البابوية، بعد أكثر من عَقدَين على العزم عليها من قِبل الكرسي الرسولي، إشاراتٍ رمزيةً مهمة. وفضلًا على تَتبُّع حلم البابا يوحنا بولس الثاني بزيارة "أور"، المقرَّرة في الألفية الثانية لميلاد المسيح، فإن البابا فرنسيس يمضي أبعد من ذلك الحلم ليتشابك مع واقع متصدع، ويخوض في خيار إنساني أوسع، هو إنقاذ العراق.
بهذا المعنى، تُعَدُّ الزيارة تصويتًا بابويًّا على أهمية هذا الخيار الإنساني، وتعني فيما تعنيه إنقاذ التنوع الرافِدِيِّ العميق الجذور: اليهودي، والمسيحي، والإسلامي، والإيزيدي، والمندائي، والكاكائي، والزاردشتي، والبهائي؛ والقومي على تعدديته الثرية: العربي، والكردي، والكلدوأشوري السرياني، والأرمني، والتركماني، والفيلي، والشبكي، والأفروعراقي، والشركسي الشيشاني الداغستاني... إلخ. وتتضمن الزيارة دعمًا لخيار الإسلام الشيعي المعتدل، كما تُمثِّله النجف الأشرف، وكما يمثِّله آية الله علي السيستاني. لذا، نقرأ الزيارة للإمام السيستاني من قِبل الحَبر الأعظم، على اعتبار أنها تصويت على الاعتدال الذي قد ينقذ شيعة العراق، ومِن ثَمَّ ينقذ العراق من هاوية التطرف والتفكك.
لا يمثل التنوع الرافِدِيُّ الغني تراثًا مشتركًا بين جميع العراقيين/ات فحسب، بل تراثًا مشتركًا للبشرية. لذا، أعود إلى فكرة قديمة قدَّمتُها مرارًا في السنوات الماضية، وهي إنشاء بيت للتنوع العراقي. كنتُ قد طرحتُ بذرة الفكرة في مقال نُشِر في موقع "تعددية"، عن إعادة بناء مسجد النبي يونس في الموصل، بعد تدميره من قبل تنظيم داعش، بوصفه بيتًا/مَجْمَعًا للثقافات العراقية. ومن ذلك المكان، يعاد رمزيًّا بناء "نينوى" جديدة كلُّيًّا. وبِوُدِّي الآن إطلاق المبادرة على نحو أوسع لبناء مجْمع للأديان في "أور" النبي إبراهيم، يُعاد -انطلاقًا منه- تَخيُّل عراق آخر بعيد عن الحصرية، ومنفتح على جميع الثقافات العراقية. سيكون هذا المَعْلم مكانًا للتعلم والحوار والعبادة، ومفتوحًا للجميع بدون أي مركزية دينية، وسيكون مَركزًا تعليميًّا لتعلُّم التنوع/والتعلم من التنوع، على النحو الذي صاغته تجربة مؤسَّسة مسارات في تأسيس معهد دراسات التنوع الديني سنة 2019، والتقاليد التي سِرنا عليها مع شركائنا وزملائنا من ممثلي الأديان المختلفة، في تجربة المجلس العراقي لحوار الأديان سنة 2013.
نتخيل تكريس البيت/المجْمع للتفاهم المتبادل، وتخيُّل الهوية الإنسانية المشتركة. ولكن، من دون استعادة إنسانيتنا، لن يكون سهلًا أن نستعيد عراقيتنا. ليكُن واضحًا أنَّ المضيَّ بهذا الخيار لا يعني وضع دائرة حصرية، تلعب فيها الأديان الثلاثة (اليهودية والمسيحية والإسلام) دور المهيمِن الثقافي، بل ستكون دائرة أوسع تضم تعلُّم التنوع: الإيزيدي، والمندائي، والبهائي، والزرادشتي، والكاكائي... إلخ. وقد خاضت مؤسسة مسارات هذا التحدي من خلال إطلاق معهد دراسات التنوع، في سبيل توفير المصادر والمناهج الدراسية والتدريب للأكاديميِّين ورجال الدين والطلبة، لغرض تنمية وعي المجتمع بالتنوع الديني، في إطار "الوحدة في التنوع"، وإدراك "أهمية التنوع" بوصفه مَصدر غنى للبلاد. ولم يقتصر الاهتمام على توظيف التاريخ الغنيِّ للدِّيانتَين الإسلامية والمسيحية، بل شمل أيضًا الديانة اليهودية والمندائية والزرادشتية والبهائية.
تتمثل إحدى الأدوات التي تعكس فلسفة المعهد، بعملية تربوية تقوم على ثنائية (التعلم من التنوع/تعلُّم التنوع). فقد أضحى تعلُّم التنوع ضرورة، في ضوء سيادة تنميط الآخر المختلف دينيًّا. أيضًا يوفر المعهد إطارًا مؤسَّسيًّا للقاء رجال الدين والشباب وطلبة العلوم الدينية والإنسانية، من مختلف الخلفيات الإثنية والدينية، وعلى نحو يعزز فكرة التعلم من التنوع. ونأمل أن تكون تجربة المعهد بُوصلة هادية لإطلاق مبادرة بيت/مجمع الثقافات والأديان العراقية.
ختامًا، فإن للعراق علاقات دبلوماسية قديمة بالكرسي الرسولي، لكنها منذ الآن، ستتخذ طابعًا آخر. وإنَّ البدء بمبادرة إنشاء بيت/مجمع الثقافات والأديان العراقية، خليق بجعل العراق عاصمة للتنوع الديني في الشرق الأوسط، وقِبلة للحج العالمي إلى أرض الحضارات الأولى.
إرسال تعليق