الأمطار تتحدث عن فشل حكومة بغداد

مشاهدات



د. باهرة الشيخلي


صخرة عبعوب ليست سوى مسمار صغير صدئ في عربة الفساد الحكومية منذ أول تاريخ الاحتلال وحتى الفيضان الأخير الذي أغرق أحياء بغداد التي عاث فيها سكان المستوطنة الخضراء نهباً وفساداً.

أكثر من غرق ينتظر بغداد هذا الشتاء

هذه المرة، لم يتحدث العراقيون ولا سواهم عن فساد الحكومة العراقية وفشلها، وإنما تحدثت الأمطار بسيول جارفة اقتحمت الجامعات والمدارس والمستشفيات والمصانع والبيوت وأغرقت الشوارع وأتلفت الأثاث وخربت الأجهزة الكهربائية.

وأظهرت فيديوهات، تداولتها مواقع التواصل الاجتماعي على نطاق واسع، غرق مدخل مستشفى اليرموك وعدم استطاعة المرضى الدخول إليه.

العراقيون يساورهم القلق، الآن، مع سماعهم أنباء توقعات أن يكون شتاء هذا العام بأمطار وسيول لا إمكانية لصد ما تحدثه من غرق وخراب، فإذا كانت أول زخات من المطر أغرقت مدنهم واقتحمت عليهم بيوتهم وفعلت ما فعلت، خلال ساعة واحدة، فماذا ستفعل أمطار الشتاء المقبل؟

الواقع، أن كارثة الصرف الصحي، التي حولت بعض أحياء العاصمة إلى غدران وأنهار كانت واحدة من مظاهر الفساد، التي ناءت بها وبأحمالها أرض الرافدين، ومن خلالها استعاد العراقيون خرافة “صخرة” أمين بغداد الأسبق عبعوب الكعبي، الذي حاول إهانة المواطن العراقي والاستخفاف بعقله، يوم ابتدع الصخرة إياها، التي تسببت في انسداد مجاري الصرف الصحي، فأغلقت الطرقات وأغرقت البيوت وملأت الشوارع بالمياه.

اتضح، في ما بعد، أن عبعوب ليس سوى مسمار صغير صدئ في عربة الفساد الحكومية، منذ أول تاريخ الاحتلال، وحتى الفيضان الأخير، الذي أغرق الكثير من أحياء بغداد المدينة، التي عاث فيها مستوطنو المستوطنة الخضراء الحكام نهباً وفساداً.

واتضح أيضا أن الحكومات الست الغارقة في آثامها أهملت معالجة الصرف الصحي، كما أهملت العراق كله، بل هي سبب الأسباب لكل الرزايا، التي ألحقت بهذا البلد المنكوب، وأس البلاء بجميع الكوارث، التي حاقت به.

كتب صحافي عراقي، متهكماً، على صخرة عبعوب، أيام غرقت بغداد على عهده، في نوفمبر سنة 2013 “نحن قوم لا نحترم آثارنا وفعلنا بها أشد فتكاً من فعل العدو ولهذا نجد أن العراق الذي أنشأ أولى الحضارات على الأرض لا يمتلك من آثاره إلا القليل، في حين تمتلك حضارات أحدث من حضارته آثاراً تملأ عشرات من المتاحف، وخذوا مثلاً على عدم احترامنا لآثارنا، هذه الأيام غرقت بغداد بمياه الأمطار الفيضانية، وتبين أن سبب غرق هذه العاصمة العظيمة صخرة وزنها 150 كيلوغراماً، سماها العراقيون سخرية وتندراً ‘صخرة عبعوب’، نسبة إلى مكتشفها أمين بغداد الحالي نعيم عبعوب الكعبي، الذي أعلن أن الأمانة فتّتت الصخرة التي أغرقت بغداد وأطاحت أمينها السابق عبدالحسين المرشدي، وبهذا أضعنا أثراً مهماً وأضعنا معها جهود مكتشفها نعيم عبعوب.. فيا لغفلتنا.. ترى ألم تكن هذه الصخرة تستحق أن تخرج وتوضع في المتحف البغدادي لتذكر العراقيين بما أغرق عاصمتهم في حادثة هي الأولى في تاريخ البشرية”.

لا ننكر أن مثل هذه الأمطار سقطت على بغداد، في الماضي، وأغرقتها، ولكن سرعان ما كانت الحالة تعالج وينتهي كل شيء، إذ كانت الدوائر المختصة تستبق الشتاء بفحص مجاري المياه ومعالجة ما يحتاج إلى المعالجة منها، مع حلول، تجهز مسبقاً، لبعض الحالات الطارئة، وكان المسؤولون الكبار يعدّون أنفسهم مسؤولين عن كل خلل يصيب أداء الدولة ويتدخلون لعلاجه، بل إن حكومات عراقية استقالت لعجزها عن إيجاد الحلول لغرق العاصمة.

وفي منتصف ستينات القرن الماضي، غرقت بغداد وعولجت الحالة في معظم المناطق إلا في مدينة الحرية، شمال غربي بغداد، إذ لم تكن فيها مجار لتصريف المياه، فخرج المرحوم طاهر يحيى، وكان رئيساً للوزراء، يومها، خائضاً في المياه ليزور المناطق المتضررة ويأمر بعلاجات لتخفيف المشكلة عن المواطنين.

وفي تسعينات القرن الماضي حدث الشيء نفسه فأمر الرئيس الراحل صدام حسين بحلول عاجلة، ورأى البغداديون بأم أعينهم أمين بغداد والمديرين العامين في الأمانة وكبار مسؤوليها يخوضون في المياه ويعملون معاً مع عمال الأمانة لتصريف المياه بأية وسيلة.

أبدى مواطنون سخرية من حضور بعض المسؤولين والنواب إلى أماكن الغرق، والتصوير قربها، وشن ناشطون على مواقع التواصل الاجتماعي، حملة واسعة للسخرية من عمليات “الاستعراض” هذه، التي قام بها مسؤولون ونواب في البرلمان، بعدما نزلوا إلى الشوارع التي غرقت نتيجة الإهمال وعمليات الفساد الإداري والمالي، وعدّوها “دعاية انتخابية على حساب المعاناة المريرة للمواطنين”.

في حديث مع الباحث العراقي عبدالعزيز الراوي، ذكر لي رواية عن فيضان بغداد سنة 1954، مستعرضاً كيف كانت الحكومات السابقة تجند كل إمكانياتها لدرء مخاطر الفيضانات ومنع غرق العاصمة، فيما وقفت حكومة السيد مصطفى الكاظمي تتفرج على غرق بغداد لأن الفساد أكل إمكانيات الدولة العراقية كلها وجعلها عاجزة عن مواجهة زخة مطر.

قال الراوي إن فيضان دجلة في ربيع العام 1954 كان أخطر التحديات التي واجهت الشعب والحكومة، يومئذ، وقد سخرت الحكومة قدراتها كلها لدرء الفيضان وإنقاذ العاصمة من الغرق، وفي شهر مارس عام 1954 سهرت بغداد إلى الصباح خوفا من الارتفاع الكبير في منسوب النهر، على الرغم من الإجراءات الكبيرة للسيطرة على الأمر وعقد النية على إخلاء بعض مناطق الرصافة ونقل الأهالي إلى جانب الكرخ لولا تدخل وزير الداخلية سعيد قزاز، وبعد أن أغرقت المياه المناطق المحيطة ببغداد الشرقية تضاعفت همم المواطنين لحماية العاصمة، أخذت المياه بالانحسار تدريجياً لتسلم بغداد من كارثة كبيرة.

أكدت الأحوال الجوية وشدة البرودة وكثرة الأمطار التي هطلت في أواخر العام 1953 وأوائل سنة 1954 أن فيضاناً خطراً سيداهم العراق، وقال وزير الزراعة آنذاك، عبدالغني الدلّي، إن تدابير قد اتخذت منها تقوية السدود الضعيفة، التي نشأت من الفيضانات السابقة في وادي دجلة، وفي 17 مارس 1954 بدأت مناسيب المياه في نهر دجلة ترتفع، ووصلت هذه المناسيب إلى درجة خطرة في 25 مارس، وأعلنت البلاغات الرسمية أن الزيادة لم يسبق لها مثيل منذ 48 عاماً.

وواصل منسوب المياه ارتفاعه، فتولى الجيش والشرطة والأهالي حراسة السدود، ووزعت الدوائر المختصة المواد اللازمة لمجابهة الفيضان، وسخرت الحكومة المكائن والآلات، التي كانت الشركات الأجنبية تستخدمها في تبليط الشوارع وإقامة المنشآت، وقاربت الزيادة 36 متراً في 26 مارس، وهو المنسوب الذي يفوق درجة الخطر بمتر واحد، فنامت بغداد ليلة 27 مارس وهي فزعة قلقة يتهددها الفيضان والغرق في كل لحظة.

واضطرت سلطات الري أن تفتح أربع كسرات في مناطق الخفاجي والرفيع واليهودية والداودية، وسهر الناس ليلة 28 مارس حتى الصباح وهم خائفون ويرتجفون وأيديهم على قلوبهم، فقد بدأت المياه تتسرب إلى كثير من الدور والمؤسسات القريبة من النهر، وفي تلك الليلة اجتمع رؤساء الوزراء السابقون والوزراء والمسؤولون وبعض النواب والأعيان واتخذ مجلس الوزراء، بعد مناقشة دقيقة للموقف، قراراً بإخلاء بغداد إخلاء جزئياً وأعلن وزير الداخلية، سعيد قزاز، مخالفته هذا القرار لما يولد تنفيذه من ارتباك قد يؤدي إلى التهلكة، وتضاعفت الجهود، التي نجحت إلى حين انحسار المياه وانخفاض مناسيب دجلة.

يستذكر العراقيون هذه الحكاية، بألم شديد، وهم يرون حكومتهم الحالية لم تحرك ساكناً لإنقاذهم وتخليص بيوتهم من المياه التي داهمتها، وكأن الأمر لا يعنيها.

بعد ساعات قليلة من هطول الأمطار على مناطق العاصمة بغداد، تحولت الكثير من الشوارع الرئيسة والفرعية، إلى بحيرات مائية، وبرك طينية، تعامل معها ضحاياها من العراقيين على أنها ملهاة في تعليقاتهم على فيسبوك وتويتر وباقي وسائل التواصل الاجتماعي، وأثناء غرق بعض البيوت والشوارع ودوائر رسمية، بأمطار تعد بداية متواضعة لموسم شتوي يتوقع أن يكون غزيراً بالأمطار.

أكثر من غرق ينتظر بغداد هذا الشتاء إذا ظل الفساد ناشراً أذرعه في مفاصل الحكومة والحياة أجمعها، وما لم تتخذ إجراءات استباقية لذلك فإن الأمور ستسير، بالتأكيد، إلى ما لا يحمد عقباه.

0/أرسل تعليق

أحدث أقدم