منادِيلُ الطُّفُولَةِ

مشاهدات

 




علي الجنابي


(ماهذه إلا فلتةُ قلمٍ شَرَحَت خربشةً على ورقةٍ من وريقاتِ الطّفولة)

أجَلْ بُنَيَّ، سَأذرُ السِّياسةَ، ومازَوَت مِن غَلسِ قالٍ ومِن دَلسِ قِيل.
أجل، وسُأُسامِرُكَ قطفاً مِمّا ضَوَتْ لَمْضَاتُ طُفولَتي مِن قَناديل، وعَطفاً مِمّا حَوَتْ نَبْضَاتُ فتوتي مِن مَناديل
ولطفاً وبمَقامَةٍ لعلَّها أندَى وأسدَى وأهدَى مِمّا رَوَتْ "مَقَامَاتُ الْحَرِيرِيِّ" ذي حَرفٍ مَليحٍ كَحيل، وأحلَى وأسلَى وأعلَى مِمّا طَوَتْ " مَقَامَاتُ بَدِيعِ الزَّمَانِ الهَمذَانِيِّ" ذي ذَرفٍ فَصيحٍ جَزيل
وخَطفاً سأَفْصِحُ لكَ عَمّا في وَمضَاتِ طُفُولتي مِن تَأويل، لكيلا تَتَمَلمَلَ فتَتَعَلعَلَ مِن حَرفِ ذَرفي أن يمتّدَّ أو أن يطيل.

فأمَّا مَساءُ طُفُولتي فكانَ حَالُهُ يَحِيلُ حِينَ يَحيلُ الأصيل، وكانَ مَآلُهُ يَميلُ لقَعدةٍ خلف سياج الدار، أو إحياناً تحت سُلَّمٍ فيها ذي بدنٍ نَحيل
البالُ حينئذٍ إذ يقعد تحتَ السُّلَّمِ يصَّعدُ في سياحةِ تدبّرٍ مُضطَرِبةٍ غيرٍ مُتورِّعة وذي أفقٍ ثقيل، وفي سباحةِ تفكُّرٍ محْتَرِبةٍ غيرِ مُتدرِّعة وذي نفق طويل،
فتراهُ عصرَئذٍ في فضاهُ، يهمسُ خُفيةً لصداهُ، وبصفاءِ خليلٍ لخليل؛
"واهٍ واه! كم هي نائية عنَّا "لندنَ"، ولكم هوَ غير متناهٍ اليها السَّبيل
ولماذا شُكرُهم هناك "ثانكٌ" ومريضُهم هنالكَ "إييل"!
ولمَ لسانُهم صّيَّرَ منَ الشُّعورِ "فيل"!

وأوَّاه، كم كان ماتعٌ تتابعَ دَغدغات أبي في أبُطي بتعجيل
بيد أنهُ كان تتابعٌ ذا أمدٍ قليل، إذ يتلاشى لمّا تَمخُرُ عَينيّ أبي سفنُ القيلولةِ بتهويل، فتنخرُ مناخيرهُ فتشخرُ أشرعتها بألحانٍ متقطِّعةٍ بتهديل
ألا ليتَ أبي مقتَ نومَ القيلولةِ، وليتهُ كانَ مثلي ينامُ بتقليل. آه، كم كانَ مُضحكاً عبوسُ وجهِ أبي برُعبٍ مُتَكلِّفٍ مُتَزَلِّفٍ بتمثيل.

ولماذا أنضجَتْ أمي غداءَنا مِن مَرقٍ ومِن عُظيماتِ عجلٍ لكأنَّها حجاراتِ سجيل، وأرجأت هَبْرَ اللحم لنهار غد الجمعة بتأجيل؟
لا أدري! رُبَما من أجل ضيفٍ زائرٍ آتٍ فضيل أو حتّى رذيل، ليظنَّ ضيفنا بنا أنّا لا نستطعمُ إلّا لحماً مقدداً، ولا نشربُ إلا شهداً مشهداً، وحالنا عن الفاقة بعيدٌ بعيد وعنها عديل.
ثمَّ كيف بَنَت يدا "أبي وهب البَنَّاء" سُلَّمَنا المُعوجٍ هذا ، وإذ هما ترتعشانِ، وإذ هم بحاجةٍ لتأهيل؟

ولمَ دَنا فتَدلَّى عليَّ وبين يديَّ ذلكَ العنكبوتُ الدَّخيل! وما زغباتُهُ؟ وأين هيَ جفونُ عُيونٍ فيه بتكحيل؟
وما رغباتهُ وأين هيَ جُنونُ فنونٍ منه بتفعيل، ثمَّ كيف إرتضى لنفسهِ أن "يتعنكبَ" بأقبحِ هيئةٍ بذا تشكيل.
{ولا فعلَ -يا صاح- مُشتقٌّ من إسمِ العنكبوتِ ولو بَحثتَ في معاجم الضَّادِ بتفصيل، ولو لبثتَ فيها أحقاباَ أحقاباً بتأصيل، فلا مؤآخذةَ ولا منابذةَ على بِدعةِ "تَعنكبَ" إذ أنا حشرتُها بين سَطوري هنا بتضليل}.

ولماذا يُسمِّي صديقي "سَركونُ" قرآنَهم "إنجيل"؟ أوليس كلاهُما من إلهٍ واحدٍ بتنزيل، فلمَ أعطاني قرآناً وأعطى سركونَ إنجيل؟ وهل في إنجيلِ سركونَ قصةُ الطَّيرِ الأبابيل!
وأيُّ مدرسةٍ خَطَّت صفحاتِ قرآنِ اللهِ خطاً مُتشابكاً، لكنهُ خطٌّ آسرٌ ساحرٌ وجميل!
أفٍّ أف! ها قد غَشَى خيالي عفريتُ النَّومِ الرَّذيل، فحَشَى باحةَ تدبّري بحالكٍ من إِكْلِيل!
ويكأنَّ سوادَ الليل موتٌ متواترٌ بقدرٍ مقدَّرِ ثقيل، ولكم أبغضُ أنا وحشةَ الليلِ الوبيل.
ولكن لا ضير لعليَ أحظى بحلمٍ في بطنِ ليلتي ذي خيالٍ جميل، أرى فيه إذ أمتطيتُ ظهرَ بقرةٍ من بقراتِ خالتي في ذاك الرِّيفِ الخميل.

وأمّا كساء طفولتي -أَبُنيَّ- فكان ثوباً يتيماً يأبى تثنيةً أو تِجارةً أوتطويل،أو مقايضةً أو إعارةً أوتبديل
وينأى عن تدليسٍ بتَلبيسٍ تحتهُ بسَراويل، حتى ولو كان تلبيساً ساتراً للعَيبِ بتقفيل
وقد كان لثوبي أن يَعدَّ سبعَ ليالِ ليحظى برفرفةٍ على حزمةِ حَطبٍ جُعلِت لهُ كحَبلِ غَسيل.
وما أكمل أكمام ثوبي المُقَلَّمِ الجميل إذ هي تَتَشعشعُ على الحبلِ وتَتَقعقعُ وتَميل، وما أجمل أقسامهُ إذ هي تَجفُّ فتتقوقع ولن تلينَ ولن تستطيل
ولكأنه أضحى جلدَ تمساح في واحةٍ مُتَحَفِّزٍ لتقتيل، أو كأنَّهُ ضحضاح قِدْر جدَّتي إذ هو يلافح الدهر بتذليل
لذلك كانَ الولوجُ في بطنِ ثوبي بعدَ كلِّ هبوطٍ من مدارِ حبلِ الغسيل، وهو لم يزلْ رطباً "فرضَ عينٍ" يستوجِبُ التَّكبيرَ والتَّهليل، قبيلَ أن ينكمشَ فيتقوقعَ وتظهرَ عليهِ طيَّاتِ "أحراشِ الأمزونَ" بتَحصيل.
ثم إنَّ لنَدَاوَةِ ثوبي إذ هو رطبٌ سِحرُ إنتعاشٍ للجُفون بتَسبيل
ولوترى إذ تَتَعانقُ النَّداوةُ معَ رطوبةِ التُّربةِ إذ الدُّبُرُ مٌلتَحِمٌ وقعيدٌ تحتَ ظلٍّ حديقةٍ ظَليل،
فتَتَسَلَّلُ الرُّطوبةُ فتَنسلُّ الى اليَافُوخَ فتَسْتَلُّ إتِّزانَ اليافوخَ فيتدَلَّى كشهابٍ يقَصَفُ قفصِ صَدري خارقٍ مفاجئٍ ودخيل.
وأمَّا حساءُ طفولتي فكان لبناَ سائغاً شرابُهُ تارةً بزنبيل، وتارةً كانَ ماءً أخضراً من نهرٍ جارٍ مُتزاحمةً ثناياهُ بضَفادعَ شتَّى ذواتِ عِشقٍ ثَميل ما بينَ تعانقٍ ببقبقةِ ونقنَقةٍ بتقبيل.
غير أنَّ في العيدِ يكونُ الشَّرابُ غير، قارورةً من عصيرٍ نَبيل، لن نلمسَها قبل أن ندفعَ لبقالِ حارتِنا "أبي نَشنوشَ" أضعافاً مُضاعفة لثمنِها بتحميل،
كتأمينٍ صحيٍّ على جسدِ القارورةِ من تَحطُّم مِنّي أو مِن زَميل،
وبذا يضمنُ أبو نشنوش سلامةَ عودتِها الى قواعدِها بين أخواتِها بتَنزيل، في صُندوق أوكارٍ مُتهرئٍ تأبى القاروراتُ أن يلجْنَ فيه إلا بعد طَقطقةِ صراخٍ وقهرٍ بعَويل.
وهكذا كانَ -يا بُنَيَّ- مساءُ وكساءُ وحساءُ طفولةِ أبيكَ في زَمنٍ مُقفِرٍ مُسفِرٍ بيدَ إنَّهُ حنيذٌ بالوئامِ، لذيذٌ بالسَّلام وبالكرامِ خميل.
آه، قد نسيتُ أن أصفَ لك ما كانت تملكُ يَميني مِن منديل.
والحقُّ أنَّهما منديلانِ وكانا يُجاهدانِ نهاراً وحثيثاً بتفعيل،
في معارك كرٍّ وفرٍّ لصَدِ مياهٍ سَمراءَ وصفراءَ من شلّالاتِ أنفٍ ماإنفكَّت تَسيل،
فتَرى ذراعَ ثوبيَ الأيمن مغواراً يتَصدَّى للسَّيل بصَهيل،
ولئن تَجَبَّسَ فتَكَلَّسَ أيمنُ المنديل وإنزوى بتَرحيل، نادى مِن فورهِ على توأمهِ الأيسر ليَقتَحمَ مِيدان الصَّد بتوكيل
وهكذا يَستدرُّ تدفُّقُ الشَّلالاتِ ويَستَمرُّ بالضّدِّ صَدُّ المَناديل، دأباً بلا كَللٍ ولا خَلل ولا مَللٍ ولا تَعليل،
وبحربٍ ضَروسٍ شَعواءَ شَعثاءََ بتنكيل، حتَى تبزغُ شَمسُ الشَّواربِ على تِلال شفتيَ العُليا على حينِ غفلةٍ منّي بتأصيل.

0/أرسل تعليق

أحدث أقدم