إبراهيم رسول
اللّافتُ والمميزُ عند ِقرّاءِة أعمال الكاتب العراقيّ علي لفتة سعيد، أنّه يوظفُ الحكايّة لصوغ الفكرة، فهو يكتبُ الفكرة وليس ساردًا للحكاية فحسب! إنّ الطريقةَ في تشكيلِ أو خلقِ العمل الروائيّ ليست بالأمرِ الهين، فهي مشروطةٌ بالدربةِ والمِران والتجارب الكثيرة والمعرفة الواسعة الشاملة. في رواية باب الدروازة الصادرة عن دار الشؤون الثقافية التابعة لوزارة الثقافة العراقية بطبعتها الأولى في سنة 2022. من تعريف فورستر لمصطلح الراوي الموضوعي الذي يعرفه: راوٍ خفيّ تمامًا، راوٍ بدون أية سمات شخصية عدا تلك التي يرويها. ( قاموس السرديات, فورستر, صفحة 91). فمن تعريف فورستر، نجد أن رواية باب الدروازة, يكون الراوي موضوعيًا تمامًا. يعيدُ الروائيّ على لفتة سعيد الاهتمام في الحكايات المحلّية ويوظفها التوظيف الذي يجعلها تكون ذات دلالات كثيرة، تنفتحُ على أبوابٍ تأويليةٍ متعددة، وكل وجهٍ حمّال أوجهٍ أخرى وتستمر الصور التأويلية دواليك. الرواية عملٌ فنّي، له قوانينهُ المعروفة ولِكنّها ليست بقوانين جامدة، فهذا يخضعُ لمهارة المبدع في استحداث وتجديد الطرّق التي يستخدمها في السرد، ومن هذه الطرق، ما يكون مُضرًا للرواية ومنها ما يكون نافعًا، وهناك ما يطوّر جنس الرواية، فالروايةُ مهما اشتغل الكاتب على أن يعقلنَ الخطاب أو الأحداث، لكنّه لا يستطيع إلا أن يصوغَ الشكل البنائيّ على صورةٍ فنّيةٍ بديعة، لكي تكتسب صفة الأدب لا بدَّ أن تكون ممتعةً، وصفة المتعة هي التي تعطي الديمومة والحيوية الفاعلة للرواية في أن تستمر ما شاء لها أن تستمر. بناء العمل الفنّي، يحتاجُ إلى طاقةٍ قادرةٍ على الخلقِ، والخلق هو الابداعُ، قد يستطيع أن يستطيع أّيّ أحد من الناس أن يروي حكاية، ويخلق من هذه الحكاية أحداثاً وشخوصًا ويقدم ويؤخر في الزمن، لكن هل نُصنف ما يسرده ذلك الشخّص على أنّها رواية؟ الجوابُ بكلِّ سهولةٍ، هو ليس كل من سردَ لنا حكاية أو تحدث سُمي قاصًا أو حكّاءً! لأنّ الأدبَ أو العمل الذي يكمن أن نصنفه على أنّه أدبٌ, هو العملٌ الذي لا يعترف بالزمن ويتمرد عليه, وهذا واضحٌ في الأعمال الخالدة لأدباء الإنسانية منذ بدءِ الوجود حتى يوم الناس هذا, حتى اللحظة نحن ندرس جمهورية أفلاطون وحتى اليوم ندرس نظرية أرسطو في الشعر وما نزال نحفظ أدب شكسبير والمتنبي وأمرؤ القيس, ما زلنا وسنبقى نتلذذ بقراءة رواية كبرياء وهوى لجين أوستن وعشاق وأبناء للورنس وغيرها, كل هذه الأعمال بقيت لهذه اليوم, كأنها مكتوبة في الأمس القريب, كونها كانت مكتوبة بلغة الأدب الذي لا يعترف بالزمن وكما يقول دوروثي براندي في كتابهِ لياقات الكاتب: ( يمتلك اللاوعي لدى أي كاتب ( نموذجًا لقصة) خاصة به وحده, وذلك لاختلاف تاريخ كل فرد منا؛ فقد تعتبر بعض الحبكات مثيرة للاهتمام وأخرى لا, وكما سيملك فكرته الخاصة عن أقصى سعادة ممكنة وعن الخير الذاتي . ( صفحة 42). الطريقةُ التي كُتبت بها رواية باب الدروازة هي خاصة للأدب، وهي ستستمر مع الزمن مواكبة له في حركته، وهذه هي الصفة التي ينبغي أن نشترطها للعمل الأدبي، فالعملُ الذي يُستهلك من أوّل قراءةٍ له لا يُعد أدبًا! لأن الأدب يُساير الإنسانية أنّى صارت وأنّى توجهت. هندسة البناء الفنّي لهذه الحكاية، اعتمد على عيناتٍ من طبقةٍ تُعد من الطبقات الشعبية، وصارت هذه الشخصيات تقصُ حكاياتها بالغة التي يتداولنها، فاللغةُ في هذه الرواية هي لغة الشخصيات البسيطة إلا أن المسحة الفنّية والابداعية راجعة لموهبة المبدع.
كثيرًا ما يستعملُ القاص الفعل الماضي ( كان), وهذه إشارة إلى تأسيسٍ فنّيٍ للحكاية, فالجملةُ الأولى هو تمثل وجهة الانطلاق التي ستنطلق بها الحكاية, فالرجوعُ للماضي يعطي ترابطًا كسلسلةٍ مترابطةٍ, ولولا هذا الرجوع لفقدت الحكاية الكثير مما يربط أحداثها وبناء شخصياتها, فنحن من خلال الرجوع عرفنا قصة خلّاوي, الشاب الجنوبي الذي يسكن مدينة سوق الشيوخ في محافظة الناصرية جنوب العراق, من خلال هذا الماضي عرفنا أن والدته ميتة, ويعيش مع والده وحدهما في سوق الشيوخ, فالرجوعُ تمهيدٌ ومعلومةٌ, تمهيدٌ يشوقُ المتلقي للمتابعة, ومعلومةٌ عن الشخصيات التي ستصاحبها في القراءة.
الروائيُ يثيرُ قضايا كثيرة، ولها أهمية كبيرة، ولكنه يسردها عبر حدثٍ، ولعل المثال الأقرب هو, إثارتهُ إلى مسألةٍ تتعلق بالثقافات أو التناقض بين المدن والريف, طريقة التنظير للقضية الفكرية جاءت عبر تقنية سردية وليس عبر خطاب مباشر, كما يقول النصّ : والشيء الذي يمكن قوله أن خلّاوي كان يضحك مع جدّته وهي تعلّمهُ اللهجة البغدادية أن هذه ليست مروحة بل يسمّونها بنكة, ولا يعرف حتى الآن معنى هذه اللفظة في اللهجة ...( الرواية صفحة 13).
في هذا النصّ، يتجلّى للمتلقي، الصياغة الفكرية التي تمت عبر تقنية سردية, تتداخل الثقافات وتمتزج وتذوب في الشخصية دون معرفة الآلية التي ذابت بها, فالإثارة كانت ذكية لأنّها كانت عبر اللغة التي هي مدار التحول, إلا أن الشخصية ( خلّاوي) لا يعرف حتى في المستقبل المعنى الدلالي لهذه اللفظة إلا أنها شاعت وانتشرت.
فالبطلُ أو شخصيةُ البطل قُدمت بصورةٍ سلبيةٍ، فهو ابن الريف، ويدخل المدينة وهو محملٌ بعاداته وفكره ويريد أن يتخذ من المدينة مستقرًا له! فيكون التحول الثقافي حادًّا على الشخصية، يقول جورج لوكاتش في كتابه نظرية الرواية الذي تُرجم إلى العربية على يد نزيه الشوفي صفحة 26: (وسلبية بطل الرواية هذه، هي ضرورية لا بدَّ منها حتى تستطيع أن نبرزَ صورة العالم المتعاظمة من حوله وعلاقته بها...)، فهذه الصورة التي بدت بها الشخصية سلبية، أعطت للمتلقي فكرةً عامة عن العالم الذي يحيط بهذه الشخصية، وكلُّ هذا كان عبر تقنية سردية غير مباشرة.
وظاهرةٌ تكررت كثيرًّا في الرواية، وهي إصرار الشخصّية الرئيسة (خلّاوي) على أن يكون شريكًا رئيسيًا في أغلب الأحداث، فهو يسمعُ ويتعلمُ من جدتهِ، وتُوصيهِ بوصايا غريبة ويعجب منها وبالأخص فيما قالتهُ له، وحذّرتهُ من البنات الشابات ألا يقربَ منهنّ ولا يُسلّم عليهنّ، فهنّ (يورطن) وهذه المفردة، قد تكاد أن تكون شائعةَ الاستعمال في اللغة العراقية، المهارةُ في وضعِ المفردة في مكانها المناسب. شخصّية خلّاوي، تميلُ حالة الفرد العراقي الجنوبي، فملاح الهُوية واضحة عليه، إن الاهتمام بإبراز شخصّية خلّاوي بهذه الصورة الواقعية، يعتبرُ إبرازٌ لهُويةٍ مسحوقةٍ ومهمشةٍ، اعتماد السرد على آليةِ الرمز كانت موفقة، فالتصريح المباشر سيجعل من الشخصّية كأنها تُحاول الدفاع عن نفسها بخطابٍ موجهٍ نحو المتلقي.
الشيء الذي يمكن أن يُسّجل للحكاية، أنّها تعتمد على التخييل في بثِ خطابها، لأنّ ظهورها في هذه السلبية، هي انعكاس خلّاق ومبتكرٌ، فصناعةُ العالم الروائيُّ ليس بهذه السّهولة التي يمكن أن يتصوّرها المتلقي، فهي عمليةٌ جد معقدة، وتحتاج إلى تأملٍ في التخييل، ليأتي العالم منسجمًا مع بعضه البعض.
يبقى السؤال المعرفيّ، يلّحُ في الحضور للإجابةِ عليه، وهو هل قدمَ الروائي روايةً اجتماعية؟ فالجوابُ يكمن في القراءة التامة لكل أحداث وفصول الرواية ومعرفةِ الخلّفيات الثقافية للشخصّيات التي وردت في الحكاية, نجدُ أنّ رواية باب الدروازة تقدمُ صور عديدة من الأحداث والقضايا الاجتماعية, ومن ثمَ هناك الشيء المهم ألا وهو أن الرواية تقدم الايديولوجية عبرَ تقنية الحوار الشخصّي, هذه الشخصيات لها دلالات عميقة في التركيبة الاجتماعية العراقية, ونتساءل هل تحيّزت الرواية في خطابها أم إنها كانت موضوعية في خطابها العام, وانطلاقًا من مقولة ميخائيل باختين في كتابه الخطاب الروائيّ الذي ترجمه محمد برادة الصفحة 190: إن الروايةَ الاجتماعية الايديولوجية, الرواية المتحيزة اجتماعيًا هي في نهاية الأمر, شكلٌ أدبيٌّ مشروع كل المشروعية . رواية باب الدروازة تقدمُ صورةً عن المجتمع العراقيّ, وهذه الصورة التي تبدو أنّها واقعيةٌ إلا أنّ الآلية التي قَدمَ الكاتبُ فيها روايتهُ هي عملٌ إبداعيٌّ, وفيه الكثير من الخَلق والابتكار, شخصّية خلّاوي هي نموذجٌ لشخصياتٍ عراقيةٍ عاشت الظروف القاسّية, الّلافت للمتلقي, الروايةُ تعالجُ مسائلَ متعددة في آنٍ واحد أو حكايةٍ واحدةٍ, هذه التقنيةُ تكررت في أعمال علي لفتة سعيد, وكأنّه يُؤسسُ لآليةٍ مهمةٍ في النوع الروائيّ, ألا وهي أن تكونَ الحكاية تخفي وراءها فكرة, فأهميةُ الفكر لم تغب عن مخيّلة المبدع, بل هي جوهرٌ أصيل في عموم خطابهِ الروائيّ, وكما يقولُ كونفوشيوس: لا يمكن للمرءِ أن يحصّلَ على المعرفةِ إلا عندما يتعلّم كيف يفكر. وقد تناصت العديد من الأفكار الواردة في هذه الرواية مع خطاب الفلسفة الناقدة التي تطرح أو تُثير القضايا المهمة في حركية المجتمع، فعلي لفتة سعيد يمارسُ هذه الفاعلية عبر السرد، ويمارسُ عملية التفكير عبر طرحه أسئلة مهمة. المتأملُ في طريقةِ الوصف في هذه الرواية، سيجدُ أنّ الروائيّ يحاولُ أن يعتمد آلية تُشرك المتلقي في خلقها ورسمها الحالة في مخيلته أثناء عملية القراءة، فهو يقول في صفحة 79 من الرواية: تنحنحت أم صلاح ثم طوت ساقيها أسفلِ مؤخرتها، ووضعت كفيها على ركبتيها كمن تريد الانطلاق والتهيؤ لأشياءٍ غير محتملة. هذا النصّ ينفتحُ على خلقِ مشهدٍ واقعيٍ للمتلقي, ليصوّر كيفية جلوس هذه المرأة, وأمام مدٍ وجزرٍ, تجد الاستعمال اللفظي الجنسي يتكرر كثيرًّا, لكنه تكرر يخدم الوصف ويُعطيه إضافة أي أنه غير محشور حشرًّا في النصّ, فواقعيةُ الحدث تحتم على الكاتب أن يجعل الشخصّيات حرّة طليقة, لا يفرض أدلجتهُ عليها, ويفكر بتفكيرها, الروايةُ تيمتها اجتماعية_ نفسية, والشخصّيات هي شخصّيات اجتماعيةٌ, ونجد حريتها واضحة من طريقة لغتها, فنحن نقرأ في لغة خلّاوي, لغة تمثل المحتوى الثقافي والمعرفي له, فبعض الكتاب يخطؤون الخطأ الفادح, عندما يجعلون لغة الفلاح أو الإنسان غير المتعلم يتكلم لغة عالية وخطاب فلسفيّ وعلميّ! هذا الخطأ يرجع إلى قيودهم التي يكبلون بها شخصياتهم, لكن ما نجدهُ في شخصيات رواية باب الدروازة, أنّها عبرت بلسانها عن أحوالها, إذ الذكاء السردي بدأ من العتبة الأولى ألا وهو العنوان الذي يقترب مع الشخصّية في تفاعلها الاجتماعي ومستواها المعرفيّ, والمستمع إلى حديث النساء وهنّ في الحمّام لا يستغرب ولا يتعجب من الأحاديث التي يتناقشنّ حولها, فهو حديثُ نسوةٍ وفي مكانٍ خاصٍّ, فلا تسمع مناقشة في الفلسفة ولا في العلم ولا في ما يحصّل في العالم من تقنياتٍ مذهلةٍ, وهنا صارت الرواية تعبيرٌ عن حالةٍ اجتماعيةٍ, وتأكدُ على هُوية , هذه الهوية تريد أن تخرج إلى العالم, وتلفت النظر إليها, فهي دومًّا مهمشة ومتهمة في عقلها.
التصّور الذي تخلقهُ الرواية، هو أنها جاءت بخلقٍ جديد على مستوى السرد والإثارة، المعاني مطروحةٌ كما الثيمات إلا أن المبدع هو من يعيد الصياغة أو يخلق الصياغة التي تكون مبتكرة، فالفكرةُ تكمن في الكيفية التي تُصاغ بها الحكاية.
قد لا تبدو حكاية خلّاوي وفتحيه وأم صلاح حكاية غريبة، بل في إثارة هكذا نوع وبهذه الطريقة الفنّية هي المتعة التي يجدها المتلقي في القراءة، وظاهرة الواقعية تقاربت مع وتداخلت في الرواية، نتيجة اختيار الشخصيات واختيار الحدث والتفاعل الذي يحصل بين هذه الشخصيات داخل عالم الرواية. إنّ الكاتبَ في هذه الرواية, يقدم رواية اجتماعية , وطبقات الشخصيات هي الطبقات التي تمثلُ الغالبية العظمى من الشعب, حداثوية السرد, أنه صارَ يكتب عن هذه الطبقات البسيطة والفقيرة والمهمشة في ظّلِ هيمنة الرأسمالية القوية التي صارت تتحكم بمصير هذه الطبقات, هذه الرواية مكتوبة عن الطبقات الشعبية عبر سرد حكايات هذه الطبقة وكيفية تفكيرها, الذي يُسجّل للرواية, أنها اتفقت مع لغة هذه الطبقات, فالكاتبُ لم يكن له الحضور المتسلط على شخوصهِ, التسلط الذي يجعله يكتب بلغة أعلى من لغتهم, فكانت لغة السرد , هي لغة الطبقة التي يقع عليها مدار التفاعل, وهذه ميزةٌ تُحسب للكاتب, أنه تركَ الحرية لشخصياتهِ أن تحكي وتتفاعل وتبني عالمها الحكائي بنفسها.
كثيرًا ما يستعملُ القاص الفعل الماضي ( كان), وهذه إشارة إلى تأسيسٍ فنّيٍ للحكاية, فالجملةُ الأولى هو تمثل وجهة الانطلاق التي ستنطلق بها الحكاية, فالرجوعُ للماضي يعطي ترابطًا كسلسلةٍ مترابطةٍ, ولولا هذا الرجوع لفقدت الحكاية الكثير مما يربط أحداثها وبناء شخصياتها, فنحن من خلال الرجوع عرفنا قصة خلّاوي, الشاب الجنوبي الذي يسكن مدينة سوق الشيوخ في محافظة الناصرية جنوب العراق, من خلال هذا الماضي عرفنا أن والدته ميتة, ويعيش مع والده وحدهما في سوق الشيوخ, فالرجوعُ تمهيدٌ ومعلومةٌ, تمهيدٌ يشوقُ المتلقي للمتابعة, ومعلومةٌ عن الشخصيات التي ستصاحبها في القراءة.
الروائيُ يثيرُ قضايا كثيرة، ولها أهمية كبيرة، ولكنه يسردها عبر حدثٍ، ولعل المثال الأقرب هو, إثارتهُ إلى مسألةٍ تتعلق بالثقافات أو التناقض بين المدن والريف, طريقة التنظير للقضية الفكرية جاءت عبر تقنية سردية وليس عبر خطاب مباشر, كما يقول النصّ : والشيء الذي يمكن قوله أن خلّاوي كان يضحك مع جدّته وهي تعلّمهُ اللهجة البغدادية أن هذه ليست مروحة بل يسمّونها بنكة, ولا يعرف حتى الآن معنى هذه اللفظة في اللهجة ...( الرواية صفحة 13).
في هذا النصّ، يتجلّى للمتلقي، الصياغة الفكرية التي تمت عبر تقنية سردية, تتداخل الثقافات وتمتزج وتذوب في الشخصية دون معرفة الآلية التي ذابت بها, فالإثارة كانت ذكية لأنّها كانت عبر اللغة التي هي مدار التحول, إلا أن الشخصية ( خلّاوي) لا يعرف حتى في المستقبل المعنى الدلالي لهذه اللفظة إلا أنها شاعت وانتشرت.
فالبطلُ أو شخصيةُ البطل قُدمت بصورةٍ سلبيةٍ، فهو ابن الريف، ويدخل المدينة وهو محملٌ بعاداته وفكره ويريد أن يتخذ من المدينة مستقرًا له! فيكون التحول الثقافي حادًّا على الشخصية، يقول جورج لوكاتش في كتابه نظرية الرواية الذي تُرجم إلى العربية على يد نزيه الشوفي صفحة 26: (وسلبية بطل الرواية هذه، هي ضرورية لا بدَّ منها حتى تستطيع أن نبرزَ صورة العالم المتعاظمة من حوله وعلاقته بها...)، فهذه الصورة التي بدت بها الشخصية سلبية، أعطت للمتلقي فكرةً عامة عن العالم الذي يحيط بهذه الشخصية، وكلُّ هذا كان عبر تقنية سردية غير مباشرة.
وظاهرةٌ تكررت كثيرًّا في الرواية، وهي إصرار الشخصّية الرئيسة (خلّاوي) على أن يكون شريكًا رئيسيًا في أغلب الأحداث، فهو يسمعُ ويتعلمُ من جدتهِ، وتُوصيهِ بوصايا غريبة ويعجب منها وبالأخص فيما قالتهُ له، وحذّرتهُ من البنات الشابات ألا يقربَ منهنّ ولا يُسلّم عليهنّ، فهنّ (يورطن) وهذه المفردة، قد تكاد أن تكون شائعةَ الاستعمال في اللغة العراقية، المهارةُ في وضعِ المفردة في مكانها المناسب. شخصّية خلّاوي، تميلُ حالة الفرد العراقي الجنوبي، فملاح الهُوية واضحة عليه، إن الاهتمام بإبراز شخصّية خلّاوي بهذه الصورة الواقعية، يعتبرُ إبرازٌ لهُويةٍ مسحوقةٍ ومهمشةٍ، اعتماد السرد على آليةِ الرمز كانت موفقة، فالتصريح المباشر سيجعل من الشخصّية كأنها تُحاول الدفاع عن نفسها بخطابٍ موجهٍ نحو المتلقي.
الشيء الذي يمكن أن يُسّجل للحكاية، أنّها تعتمد على التخييل في بثِ خطابها، لأنّ ظهورها في هذه السلبية، هي انعكاس خلّاق ومبتكرٌ، فصناعةُ العالم الروائيُّ ليس بهذه السّهولة التي يمكن أن يتصوّرها المتلقي، فهي عمليةٌ جد معقدة، وتحتاج إلى تأملٍ في التخييل، ليأتي العالم منسجمًا مع بعضه البعض.
يبقى السؤال المعرفيّ، يلّحُ في الحضور للإجابةِ عليه، وهو هل قدمَ الروائي روايةً اجتماعية؟ فالجوابُ يكمن في القراءة التامة لكل أحداث وفصول الرواية ومعرفةِ الخلّفيات الثقافية للشخصّيات التي وردت في الحكاية, نجدُ أنّ رواية باب الدروازة تقدمُ صور عديدة من الأحداث والقضايا الاجتماعية, ومن ثمَ هناك الشيء المهم ألا وهو أن الرواية تقدم الايديولوجية عبرَ تقنية الحوار الشخصّي, هذه الشخصيات لها دلالات عميقة في التركيبة الاجتماعية العراقية, ونتساءل هل تحيّزت الرواية في خطابها أم إنها كانت موضوعية في خطابها العام, وانطلاقًا من مقولة ميخائيل باختين في كتابه الخطاب الروائيّ الذي ترجمه محمد برادة الصفحة 190: إن الروايةَ الاجتماعية الايديولوجية, الرواية المتحيزة اجتماعيًا هي في نهاية الأمر, شكلٌ أدبيٌّ مشروع كل المشروعية . رواية باب الدروازة تقدمُ صورةً عن المجتمع العراقيّ, وهذه الصورة التي تبدو أنّها واقعيةٌ إلا أنّ الآلية التي قَدمَ الكاتبُ فيها روايتهُ هي عملٌ إبداعيٌّ, وفيه الكثير من الخَلق والابتكار, شخصّية خلّاوي هي نموذجٌ لشخصياتٍ عراقيةٍ عاشت الظروف القاسّية, الّلافت للمتلقي, الروايةُ تعالجُ مسائلَ متعددة في آنٍ واحد أو حكايةٍ واحدةٍ, هذه التقنيةُ تكررت في أعمال علي لفتة سعيد, وكأنّه يُؤسسُ لآليةٍ مهمةٍ في النوع الروائيّ, ألا وهي أن تكونَ الحكاية تخفي وراءها فكرة, فأهميةُ الفكر لم تغب عن مخيّلة المبدع, بل هي جوهرٌ أصيل في عموم خطابهِ الروائيّ, وكما يقولُ كونفوشيوس: لا يمكن للمرءِ أن يحصّلَ على المعرفةِ إلا عندما يتعلّم كيف يفكر. وقد تناصت العديد من الأفكار الواردة في هذه الرواية مع خطاب الفلسفة الناقدة التي تطرح أو تُثير القضايا المهمة في حركية المجتمع، فعلي لفتة سعيد يمارسُ هذه الفاعلية عبر السرد، ويمارسُ عملية التفكير عبر طرحه أسئلة مهمة. المتأملُ في طريقةِ الوصف في هذه الرواية، سيجدُ أنّ الروائيّ يحاولُ أن يعتمد آلية تُشرك المتلقي في خلقها ورسمها الحالة في مخيلته أثناء عملية القراءة، فهو يقول في صفحة 79 من الرواية: تنحنحت أم صلاح ثم طوت ساقيها أسفلِ مؤخرتها، ووضعت كفيها على ركبتيها كمن تريد الانطلاق والتهيؤ لأشياءٍ غير محتملة. هذا النصّ ينفتحُ على خلقِ مشهدٍ واقعيٍ للمتلقي, ليصوّر كيفية جلوس هذه المرأة, وأمام مدٍ وجزرٍ, تجد الاستعمال اللفظي الجنسي يتكرر كثيرًّا, لكنه تكرر يخدم الوصف ويُعطيه إضافة أي أنه غير محشور حشرًّا في النصّ, فواقعيةُ الحدث تحتم على الكاتب أن يجعل الشخصّيات حرّة طليقة, لا يفرض أدلجتهُ عليها, ويفكر بتفكيرها, الروايةُ تيمتها اجتماعية_ نفسية, والشخصّيات هي شخصّيات اجتماعيةٌ, ونجد حريتها واضحة من طريقة لغتها, فنحن نقرأ في لغة خلّاوي, لغة تمثل المحتوى الثقافي والمعرفي له, فبعض الكتاب يخطؤون الخطأ الفادح, عندما يجعلون لغة الفلاح أو الإنسان غير المتعلم يتكلم لغة عالية وخطاب فلسفيّ وعلميّ! هذا الخطأ يرجع إلى قيودهم التي يكبلون بها شخصياتهم, لكن ما نجدهُ في شخصيات رواية باب الدروازة, أنّها عبرت بلسانها عن أحوالها, إذ الذكاء السردي بدأ من العتبة الأولى ألا وهو العنوان الذي يقترب مع الشخصّية في تفاعلها الاجتماعي ومستواها المعرفيّ, والمستمع إلى حديث النساء وهنّ في الحمّام لا يستغرب ولا يتعجب من الأحاديث التي يتناقشنّ حولها, فهو حديثُ نسوةٍ وفي مكانٍ خاصٍّ, فلا تسمع مناقشة في الفلسفة ولا في العلم ولا في ما يحصّل في العالم من تقنياتٍ مذهلةٍ, وهنا صارت الرواية تعبيرٌ عن حالةٍ اجتماعيةٍ, وتأكدُ على هُوية , هذه الهوية تريد أن تخرج إلى العالم, وتلفت النظر إليها, فهي دومًّا مهمشة ومتهمة في عقلها.
التصّور الذي تخلقهُ الرواية، هو أنها جاءت بخلقٍ جديد على مستوى السرد والإثارة، المعاني مطروحةٌ كما الثيمات إلا أن المبدع هو من يعيد الصياغة أو يخلق الصياغة التي تكون مبتكرة، فالفكرةُ تكمن في الكيفية التي تُصاغ بها الحكاية.
قد لا تبدو حكاية خلّاوي وفتحيه وأم صلاح حكاية غريبة، بل في إثارة هكذا نوع وبهذه الطريقة الفنّية هي المتعة التي يجدها المتلقي في القراءة، وظاهرة الواقعية تقاربت مع وتداخلت في الرواية، نتيجة اختيار الشخصيات واختيار الحدث والتفاعل الذي يحصل بين هذه الشخصيات داخل عالم الرواية. إنّ الكاتبَ في هذه الرواية, يقدم رواية اجتماعية , وطبقات الشخصيات هي الطبقات التي تمثلُ الغالبية العظمى من الشعب, حداثوية السرد, أنه صارَ يكتب عن هذه الطبقات البسيطة والفقيرة والمهمشة في ظّلِ هيمنة الرأسمالية القوية التي صارت تتحكم بمصير هذه الطبقات, هذه الرواية مكتوبة عن الطبقات الشعبية عبر سرد حكايات هذه الطبقة وكيفية تفكيرها, الذي يُسجّل للرواية, أنها اتفقت مع لغة هذه الطبقات, فالكاتبُ لم يكن له الحضور المتسلط على شخوصهِ, التسلط الذي يجعله يكتب بلغة أعلى من لغتهم, فكانت لغة السرد , هي لغة الطبقة التي يقع عليها مدار التفاعل, وهذه ميزةٌ تُحسب للكاتب, أنه تركَ الحرية لشخصياتهِ أن تحكي وتتفاعل وتبني عالمها الحكائي بنفسها.
إرسال تعليق