ضمن عروض مهرجان بغداد المسرحي العراقي الدولي الثالث عرضت المسرحية التونسية “عائشة13” على قاعة المسرح الوطني. وهي من اخراج سامي النصري وتأليف رياض السمعلي. تمثيل هاجر الحمودة ومحمد شعبان ونور قدري وفوزية بدر ومهذب الرملي واصالة النجار ومايسة ساسي ومحمد بوزيد .يشتغل العرض على انساق تمثل سرديات كبرى غير مضمرة مكشوفة تتمثل بالسطوة الذكورية التي تحيل عليها كل مفردات ومكونات العرض المرئية والمسموعة ذلك النسق الذكوري الذي يضم الى جسده انساق اخرى يتصدرها الفهم المؤدلج لكل ما يشكل اداة تسخر للامعان في حرمان المرأة من حرياتها وتقمع وجودها وتستغلها وتمتهن كرامتها تحت ذرائع وقوانين شتى لصالح سطوة ذكورية او بنية متعالية ماحقة التي يُصَرحُ بها في هذا العرض وبكل جرأة لتعرية هذه السردية المهيمنة المطلقة. وخيارات المخرج الجمالية تشكلت عبر بؤر العرض الناطقة مركزها هيكل قار وثابت لكنه متحرك حسيا يمتاز بصيرورته الدلالية المتغايرة بحسب البناء الفكري للمشاهد المتعاقبة التي يفصل ما بين الواحدة والاخرى انحسار الضوء وتوهجه وتفاعله مع المكون الموسيقي المتواصل المتحالفة مع الاضاءة التي لعبت دورها بمهارة في العرض الذي شاهدته عبر الرابط الالكتروني وعكست حضورها وبرهنت بألوانها المتوخاة انها العنصر الفعال في تحديد الجو النفسي للمواجهة والحوار الصارم والصراع الوجودي بحسب تتابع المتوالية المشهدية التي تركبت منها حلقات خطاب العرض بعمق ووضوح وقسوة وتعسف، من غير تورية او تعمية وغموض على الرغم من انها في عرض المسرح الوطني لم تكن بكفاءة العرض السابق اذ غلب عليها الغموض والضبابية والعتمة المقصودة قطعا لكن المتلقي هنا كان يبحث عن الوضوح .المواجهة والصراع المقاوم انطلق مع انطلاق المؤثر الموسيقي الذي اوحى بدءا بإيقاع صوت ساعة متواتر يتصاعد لتُعلن ساعة الحسم والبوح والتصدي وكشف المختفي والمستور والمضمر وجعله في منطقة الفعل. الشكل الذي تأسس العرض عبره على هيئة مدرج مرتفع عموديا وممتد افقيا احتل مساحة الرؤية ماديا وحسيا، اتخذه المخرج وسيلة لحركة الممثلين امامه وبمحاذاته وخلفه وعلى مدرجاته فضلا عن المسطبات الصغيرة المتحركة للجلوس والتشكيل، كل تلك المساحة دللت على مصحة للأمراض النفسية اصحابها معرضون للإفلاس ويبحثون عن حلول لإنقاذ مصحتهم، وفيها زجت مجموعة من النساء المعنفات ولكل منهن حكايتها الثرية بالوحشية والقسوة التي مورست بحقها، فيما تتمفصل الحكاية عن حالة “عائشة ”الصحفية التي تكتشف وتدون ما يجري من قهر للنساء في هذا المكان وبسبب ذلك يقذف بعائشة في هذا المكان الموحش وزنزانتها تحمل “الرقم “13” ذلك الرقم المحمول بموروث التشاؤم التقليدي، “عائشة” التي وجدت نفسها في هذا المكان عنوة تجتهد للعثور على ذاتها الحقيقية وتسعى للوصول اليها فتثور بوجه تلك الانتهاكات التي يتعرض لها مجتمعها عامة، بسبب السلطات وقانونها المنحاز تاريخيا لسطوة الذكورة وتوابعها ومعيناتها الاجتماعية والدينية والسياسية، على الرغم مما تتعرض له من سوء معاملة وحبس فهي ترفض مبدئيا اخذ العلاج وتتمرد لتثوير زميلاتها ما يضاعف عذاباتها. إن الاشارة الاولى التي دفعها العرض فور انبثاق مؤثراته الضوئية والموسيقية مع ما تجسد فيها من ايحاء بالريبة والترقب والقلق توحي بقبو سجن للتعذيب، هذا المشهد الذي فتح اسرار الخطاب على مصراعيه من الوهلة الأولى، وكل ما جاء بعده وسائل تعميق تلك اللحظات الفارقة وحالات التعذيب التي تنتهك حرمات النساء، وتسلبهن حقوقهن في التعبير والاختيار، المواجهة تستمر، وتعكس القماشات السوداء التي تغطي وجوههن ذلك الجو القاتم، العرض ينطوي على صراع تعيشه النسوة ويهيمن على وجودهن الملغي، وكل منهن لها حكايتها التي يستحيل فيها المكان الى منطقة تتخيلها، تتحرر النساء من قيودهن تدريجيا، فالبداية كن مغيبات عبر تغطية وجوههن بالقماشة السوداء التي تدلل وتشير على الضبابية التي ينظر من خلالها لها ولمكانتها ، فالسوداء هو كل ما علق عبر هذه النسق المنحاز للطرف الاخر، وحركتهن اولا وئيدة متعثرة خائفة متوجسة تتحسس وجودها كالعمياء، ثم ترفع النسوة الخمار الاسود تدريجيا بعد سلسلة من المواجهات الانفعالية العنيفة صوتيا وحركيا بالضد من الطرف الاخر الذي يتمثل بالعاملين في المصحة / السجن / الملعب / الوطن / البحر/ وهم مدير المصحة الذي يحيط رقبته طوق طبي يستخدم في حالات مرضية تتسبب بصداع وغثيان وألم مزمن، والممرضات والرجل حليق الرأس بوصفه أداة للقمع الممنهج والعشوائي ، وعلى ما يبدو ان المخرج قد توخى هذه الدلالة عبر طوق الرقبة الطبي ليعطي مؤشرا على ان هؤلاء القامعين والادوات الغاشمة انما هم مصابون بعدم الاتزان وغثيان الرؤية ودوار الافكار البائدة، بسبب هذه المواجهة التي تبديها النساء طلبا للحرية المفقودة، والتي تفضح عبر بوحها الصارخ مجموعة من الاخطاء التي يعاني منها المجتمع عموما كالبطالة وتفشي المخدرات والعنف الاسري والاغتصاب والتحرش وامور اخرى تمحق ارادة الكائن المكمل للحياة وكل ذلك تجلى عبر مجموعة من الحالات التي تستعرضها النساء، في مناطق مختلفة من بيئة العرض الافتراضية افقيا وعموديا في الظلمات وفي العلن، التصورات التي تحيل المكان عبر سينوغرافيا الضوء، اذ يتحول التكوين الهائل للمدرج الى بحر بلون احمر تستأنس به العاشقة او كاليري او مخيم او قارب للهجرة، فضلا عن المعتقل والسجن والمصحة والملعب، التحولات المشهدية عديدة تتسق مع المكون الموسيقي الذي عزز التواصل ما بين وحدة واخرى، كأنين المستغيثين المعذبين وايقاع يوحي بالحرب والمعارك والقلق والغرابة والغربة والغموض والموت والحياة بل وبعض المؤثرات التي تسبب الازعاج الحسي للتدليل على التعذيب المستمر. تتخلى النسوة عن قيودهن تصاعديا ففي المرة الاولى تظهر عائشة وقد عصبت عيناها بقماشة سوداء بعدها وقد قيدت بقميص المرضى النفسيين، ثم يتحررن من هذا القيد وتنسدل الاكمام الطويلة، يتطور الامر ويتخلصن من بعض ملابسهن ليخبرنا العرض ان القيود تتكسر على صخرة الاصرار، وتؤكدها الانفعالية الادائية للممثلين التي شابها التوتر المحسوب والقصد يعبر ما يتم استنطاقه من خلال وعي الخطاب المرسل، كما يكشف العرض في وحدته الموضوعية، اهمية وسائل التواصل الاجتماعي وتطبيقاته المختلفة بوصفها وسائل الفضح والتعرية وكشف الممارسات الدنيئة التي تمارس ضد المرأة في المصحة/المجتمع وهي من دلائل التثوير والحث على التمرد كما هو حاصل في مناطق مختلفة من العالم/ وكذلك ما يحصل نتيجة تلك الضغوطات من حالات انتحار سيما انتحار مريم المعذبة التي اججت الاحتجاج والرفض بوجه العنف الاسري والاجتماعي. كل ذلك دفعه المخرج عبر هذه الرسالة الجريئة وهو يعلن صرخته بوجه السلوكيات المتخلفة والموبوءة سيما التطرف الداعشي والجرائم التي ارتكبها في العراق وسوريا من خلال المرأة الهاربة من معسكراتهم والتي زج بها في هذه المصحة. لتعكس الممارسات المتخلفة السافلة التي ترتكب بحقها ومن خلال ما يطرحه الخطاب يتم التطرق الى مسائل ذات محتوى متعال موروث سواء في الفهم المغلوط للدين وحيثياته وبالوقت نفسه ما يتعارض مع ذلك ويشكل الضد النوعي عبر الفلسفة بخاصة (نيتشه) وطروحاته في تسام القوة، وموت الاله ولربما اراد المخرج والمؤلف ان يحاكيا فكرة التعبيرين في مفهومهم لقتل الاب، بمعنى ازاحة تلك السلطة الابوبة التي تسببت في ازهاق ارواح الملايين في الحروب العبثية سيما العالمية الاولى والثانية. والمعنى المجازي قتل المتبنيات المفروضة والقارة التي احيطت بقدسية تحرم المساس بها وعبرها يبرر كل ذلك القمع الذي ينال المجتمع متمثلا بالمرأة التي تركزت بشخصية عائشة التي اجادت التعبير والتحول من صورة المغلوب على امره المتعكر نفسيا المقاوم الى رجاحة العقل التي ترسم صورة للجدل الارسطي الذي يتدرج من عدم الفهم الى الفهم والاقناع عبر مواجهة الادوات التي تستخدم لإذلالها وعلى راسها الطبيب / الحبيب، الذي يرغب باستغلالها المباشر وتحطيم ارادتها لإنقاذ المصحة واسكات صوتها المدو، كذلك تمثل صرخة الروح التي نرى لها صدى صادحا بالموسيقى تارة ومن اعماق النساء المعذبات اللواتي يميطن عنهن لثام الظلام، ومن اللافت لجوء المخرج الى النقاشات العنيفة بين بؤر الحدث البشرية ، الطبيب عائشة والطبيب ومدير المصحة الطبيب والهاربة من سجون داعش وغيرها من التعارضات الفكرية وذلك يحيلنا الى مسرح ابسن وما فيه من سجالات حوارية محتدمة بخاصة في مسرحية بيت الدمية ومن خلالها تستعرض الشخصيات مواقفها ومبرراتها لتحقيق وجودها. تنقلب الطاولة على العاملين في المصحة اذ يتحولون الى مدانين ينهارون بوجه عناد النساء ويمسون مطاردين، والحق يقال ان الاطراف كلها قابعة تحت الخيمة ذاتها اصحاء موجودون ومجانين في خانة اللاموجود، ومن المهم الاشارة الى ان المخرج استطاع بمهارة استغلال كل المساحة في تكويناته الحركية والثابتة العمودية والافقية، وتركيب البنية اللونية للضوء كان حساسا ينتقل بالمشاهد من حالة لأخرى بصدقية على الرغم من صعوبة الرؤية في مشاهد عديدة بسبب خفوت الضوء حد العتمة، ولو قيض التقنين في زمن العرض واللجوء الى جعل حوار الشخصيات باللغة العربية الفصحى لكان اكثر تأثيرا في المتلقي العراقي الذي لم يتعرف على الكثير من المفردات ومعانيها كونها باللهجة التونسية، مع ذلك وبحسب رأيي فقد اسهمت المؤثرات الموسيقية في جعل الحدث الرئيس منصهرا مع المَشاهد يعان ما تعان منه مكونات العرض البشرية. والاكثر وضوحا ان خطاب الممثلين في معظمه كان بمواجهة المتلقي حتى ان المدرجات امام الصالة ذلك قطعا له قصدية تفترض ان يكون مصدر القرار في التصدي بيد المتلقي وان مثل هذا الخطاب الذي ينطوي على تلك المقذوفات المتأججة بالضرورة ان يفعل الحراك الاجتماعي للوقوف بوجه تلك السرديات الكبرى وبعيدا عن المقولات التي تزوق الكلمات وتفبركها وتجملها، فالمحتوى لا يحتمل المجاملة اطلاقا فقد اجتهد الممثلون وامتازوا بالمهارة والكفاءة والصدقية والحضور اللافت فضلا عن تكاملية مكونات العرض من الناحية الجمالية بمختلف وسائله السمعية والبصرية والحركية على الرغم من زمنه الطويل الا انه كان معبرا عَكس حقيقة المسرح وجوهر مضامينه التي افنى المسرحيون اعمارهم من اجل ان يرسخوه قوة جبارة قادرة على التثوير والتغير وتفعيل ماكنة التفكير والوعي.
الموجود واللاموجود في عرض مسرحية "عائشة 13"
مشاهدات
إرسال تعليق