قصّة ريناد و المجهول حمزة/ الجزء الثاني

مشاهدات



نسرين ولها أديبة و شاعرة تونسية


مضت دقيقةُ صمتٍ مريرةٍ، أَوْمضَ فيها عقل ريناد وجرى الخطرُ مجرى عُروقها وَ طفقَ يخِزُها بشحناته السّالبة وخزًا، فارتفع نبضُها و بانت الحُمرة على وجنتيها.

" كيف السّبيل الآن ؟ غريبٌ في بيتكِ و أمره أكثر غرابة! هل ستتورّطين مُجدّدًا بسبب طيبتك الزّائدة أو ستُفلتين يديك من هذه الورطة وتمضين دُون أن تلتفتِي إليها مقدار نظرة خاطفةٍ واحدةٍ، أم أنَّ واجبَ الإنسانيّة يُناديك بصوتٍ فذٍّ لا مناص منه !! " كانت عجقةُ نفسها تحتفلُ بوضعها أيّما احتفالٍ وبناتُ أفكارها يَتَخاصَمْنَ على نحو مُمتعٍ .

ثُمّ طلعت من صدر ذلك الرّجل كلمات ليست كالكلمات:

-سيّدتي ! إنّي أقول الحقيقة.. و إنْ خالجتك الرّيبةُ في أمري ، فَو َالله إنّكِ من أهل الخير و الله لن يُضيّعكِ. 

لمْ تُصدّق ريناد ما سمعتهُ ، مُجرّد كلمات بشريّة -مِن ورائها يدٌ عُليا  خفيّة- اخترقت آذانها و ذابتْ في روحها. وتلك الكلمات القليلة كانت كافيةً تمامًا لإخمادِ عاصفةٍ هوجاءَ دُفعةً واحدةً، فالذي يعرفُ ريناد عن قريبٍ 

يُدركُ جيّدًا أنّها لا تتوقفُ عن اقتفاءِ رسائل القدر، وثمّةَ جنّتها.

اِنتفضت المرأةُ من مكانها ودنت قليلاً من حمزة وأضافت:

-أهلاً وسهلاً بالرسالة رقم 86  من القدر. من اليوم أنت ضيفي حتّى يتحسّن وضعك و تستعيد عافيتك ..سأجهّز لك غرفةً  و سأساعدك على استعادة ذاكرتك فأنا أكون طبيبة.

-مُمتنٌّ، سيّدتي.

شَكرها و هو يتمّعن في كلامهَا فهو لا يتذكرّ تفاصيل حياته بالأساسِ فأنَّى له أن يستوعب محتوى الرّسالة ذات الرقم 86 .

على كلٍّ، فهو مُجْهَدٌ الآن حدّ الإغماء، وأغلب عضلات جسمه في حالة انبساطٍ وأصبح لِزامًا أن يأخذ قسطًا من النّوم علّه يستفيق بعده بحالٍ أفضل.

اِنبرت ريناد إلى الطابق العُلويّ تُحضّر غرفة الضّيوف. في البداية، شرّعت النافذة على مصراعيها فتسلّلت نسائم الأكسجين المُنعشة إلى أنفها وانعكست خيوطٌ برّاقة من الشّمس على خصلات شعرها فزادتها فُتونًا. ثُم غيّرت أغطية السّرير والوسائد بعدما مسحت كلّ من الأرضيّة و الأثاث الذي يمدّ قامته في الأرجاء. وماهي إلاّ دقائق حتّى ضجّت الحياةُ في أركان المكان وغدت الغُرفة مُستعّدةً لاستقبال المجهول حمزة أو النّبيل حمزة، الأمرُ سِيّان.

صيحة مُباغتة تناهت إلى أذنيها فتسارعت أنفاسها وركضت صوب الصوت وهي تقطع الدرج قطعًا وهناك ألفت حمزة مُتمايلاً بين أعمدة الدرج والبساط الأحمر، ضاغطًا بكلتا يديه على رأسه يُنادي و يُكرّر كلمة غريبة لم تُدرك ريناد كُنهها " آيلا ".

رغم كلّ الحالات التي عالجتها سابقًا لم تصطدم يومًا بمثل هذه الحالة العاجلة والفريدة، وطريقتها في تناول الأمور كانت حازمة إذْ لم يحدث أنْ خاضتْ في أمراض طويلة الأمد أو مُزمنة.

سحبت ريناد نفسًا عميقًا و أمسكت بكتفِ حمزة و حملته إلى غرفته على مضضٍ فقد كان جسده شِبه مُستسلمًا لمُخلّفات انخفاض مستوى السّكر في الدّم بينما كان جبينه ينضخ عرقًا..وحده الله الذي يعلم كم لبثَ الرّجل دون أكلٍ أو شُربٍ حتى عثر عليه أولئك المُسرفون على أنفسهم.

عجّلت الطبيبة إلى المطبخ وأخذت قارورة العسل وسكبت ملعقة كبيرة منها في كأس ملآن بالماء ومن ثمّ صعدت الدرج كرّة أخرى تَحثّ الخُطى نحو حمزة.

 كان مُتّكئًا على السرير شاحبَ اللون ، مثلوجَ الأعصاب، غائرَ العينين ، بنصف وعي، مُتقوقعًا على نفسه، وخائر القوى. لا شكَ أنّه يشعر بالوحدة والخوف، الخوف من المجهول لا سِيّمَا.

 اقتربت منه ريناد وأجبرته على احتساء الشراب المُحلّى. وشيئًا فشيئًا بدأ  جسمه يستعيدُ مؤشّرات الحياة وهدأ اختلاجُ صدره، لكنَّ الأفكار لا تنكفّ عن طرق عقله طرقًا عنيفًا. من يكون ؟ ماهو مصيره ؟ ماذا سيفعل؟

 ازْدَرَدَ حمزة ريقه بصعوبة وحدّق بملء أحداقه في تفاصيل الطبيبة وكأنّه لا يُصدّق كلّ ما يحصل له وكأنّه إزاء كابوسٍ ما أو حلمٍ مُبالغ فيه لَرُبّما.

بلى، تلك هي الحقيقة بالرغم من قسوتها. و فيما كان حائرًا ربّتَتْ ريناد في حُنوٍّ على كتفه الأيسر و قالت:

-حمزة ..كُن ثابتًا مهما كان الثّمن ..و لاَ تَخَفْ من المستقبل  فإنَّ معَ العُسر يُسرًا ..تمام ؟

0/أرسل تعليق

أحدث أقدم