( إيتيكيتُ العَابدِ والمَعبودِ )

مشاهدات


 
علي الجنابي - بغداد

ليَ صاحبٌ "ذو سيجارةِ" مهيبُ المِراسِ في خُطواتهِ و حينَ حركاته، رهيبُ المَماسِ في ثباته وحين سكناتهِ.
صاحبي فحلٌ عميدٌ بين ذواتهِ، نحلٌ سديدٌ في صفاتهِ، ضحلٌ رشيدٌ في كلماتهِ، لكأنّ لفظَهُ يَتَفَلَّتُ من سجنِ نبراتهِ، ولكأنّي بنطقهِ يُحذِّرُ جيشاً من غَفلاتهِ! صاحبي غيرُ مُتكلِّفٍ وهَكذا ربُّهُ خلَقَهُ بحركاته، وفَلَقَهُ بسكناته! فإن تَرَجَّلَ تَعَجَّل حثيثاً بخُطواتهِ، وإن سَكَنَ رَكَنَ لشهيقٍ من سيجارتِهِ، تَرتعشُ إصبعاهُ لمّا يَقبضُ على سيجارتِهِ، وكأنّهُ يقتلعُ عرجوناً مِن كرباتهِ! فإن نَفثَ دخانَها فكأنّها آخرُ زفرةٍ في حياتهِ، إنهُ يعلم بسمومِ سيجارهِ في رُفاتهِ، فإن رَمى سيجارَهُ، ونصفُها لم يَمتْ بعدُ، رماهُ خَطفاً قبل مِيقاتهِ!
يظنُّ مَن لا يعرفهُ أنّهُ مجرمٌ في زفراته وفي تقلباتهِ، لكنّي أرى زَفراتَهُ وتقلباته هي لذة ما فيهِ من أنسٍ، وهي نبعُ فُراتهِ. نصحتُ صاحبي ذي السيجارةِ بتعجرفٍ ومن علوٍّ؛
" ألم يأنِ لكَ ياصاحُ أن تَتَقَنَّعَ بِفنِّ (الإتيكيتِ - Etiquette) في لباقةِ حديثِكَ حال عَبراتهِ، فتَتَصَنَّعَ برزمةٍ من (إسْمارتِهِ)، وتَتَمَنَّعَ بحزمةٍ من بسماتهِ، وتَتَقَمَّعَ بالخُيَلاءَ في (إستارتِهِ). ثمَّ تَتَدَمَّعَ بسيلٍ من نظراتِهِ، وتَتَلَمَّعَ بكيلٍ من مخرجاتهِ. هيّا تلحلحْ يا صاح، فَتَوَلَّعْ بقفشاتهِ ولَمسَاتهِ، وتَدَلَّعْ بخَلجاتهِ وهمَسَاتهِ "؟
صَدَّني صاحبي عابِساً للوجهِ بزفراته، وَرَدَّني حابِساً لِنفسِ سيجارهِ في قَنواتهِ؛ " أوَنُصحٌ ذاكَ منكَ ياصاحُ، أم تَزلّفٌ للحرفِ في نواتهِ، وتَكلّفٌ للطرفِ مِن غُلاتهِ؟ فأنصِتْ ليَ لأُرِيَكَ ال(إتيكيتَ) الحقِّ بأوفى رسماتهِ، وأصفى نسماتهِ؛ أرايتَكَ المَعبود الذي مَلَكَ الأجنّةَ وإدراكَها، والأنفسَ وهلاكَها، والهواجسَ وأملاكَها، والمجرّاتِ وأفلاكَها، والبحارَ وأسماكَها، والعناكبَ وشِراكَها، سأُريكَ إتيكيتَهُ من لبِّ مشكاتهِ...
تَدَبّرْ كيفَ أتَتْ عبارةُ (لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) في قلبِ (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ -لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا- أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)، فَلَنِعمَ المكافآتُ مكافآته! عَنِ إتيكيتِ (عفويةِ وتِلْقَائِيَّةِ الحرفِ) أُحَدِّثُكَ ياصاح، ثمّ تَفَكَّرْ كيفَ جاءَ بعدها إتيكتُ العابد؛ (مَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ) برحماتهِ وبركاتهِ! ثمّ تَذَكَّرْ كيفَ رَدَّ المعبودُ كرّةً أخرى فأعادَ الفضلَ له؛ "تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ" ففَازَ العابدُ بعفوهِ وبمرضاتهِ. عَنِ (العفويةِ) أُحَدِّثُكَ، ودعك من إتيكيت الجسِّ والدسِّ وغمزاتهِ ورفساتهِ.
فَيا لِجميل عفويةٍ وإتيكيتٍ نقيٍّ عجبٍ، ويا لِكمال صفاتهِ! ويا لنبيلِ حوارٍ نديٍّ صببٍ في سَعدِهِ وحينَ مُواساتِهِ.


0/أرسل تعليق

أحدث أقدم