رباح آل جعفر
من سنوات بعيدة التقيت عدداً من مشاهير التلاوة في العراق. لا يزال صوت الحافظ خليل اسماعيل أروعهم وأمتعهم. كان صوتاً من السماء. فقد وسعت حنجرته رحمه الله جميع ألوان المقامات والطبقات. كنت أطرق الباب فيعرفني. أجلس عن يساره، فيطلب مني أن أجلس عن يمينه.. وكان يقول: إنه يراني ويستطيع أن يحسب الملعقة واللقمة التي آكلها ويعدّ كم كوباً أشرب من الماء ولا يُخطئ في الحساب.. فأستغرب الأمر، وأجرّب، ويحسب ويكون الناتج صحيحاً، وأسأل نفسي بعجب: هل هذا معقول؟!.
ليست هذه مبالغة، إنما وصف حقيقة.. وكان يقول لي: نحن فاقدي البصر نرى، ونكتب، ونقرأ، ونتخيّل، ونتفرج، ونعشق، ونشتاق، ونبكي بقلوبنا!.
وعميد الأدب العربي طه حسين كان أكبر قارئ عربي. وكان يطيل السهر للقراءة، ويفتتح معارض الرسوم بنفسه ويقول فيها آراءه، وكان يكثر في محاضراته من القول: إني رأيت، وإني شاهدت، وإني نظرت، وإني قرأت. وعندما تظاهر طلاب من “الإخوان المسلمين” يهتفون ضده: “يسقط الوزير الضرير”. ردّ عليهم بهدوء: “الحمد لله الذي جعلني ضريراً كي لا أرى وجوهكم”!.
وإذا كانت “الإلياذة” و “الأوديسة” أروع ما أنتجت العبقرية الإغريقية في التاريخ فمن المؤكد أن مؤلفها الشاعر الخالد هوميروس كان أعمى. وهنالك لوحة نادرة رسمها فنان هولندي من أغلى اللوحات في العالم تحكي حواراً متخيّلاً بين أستاذ الفلاسفة أرسطو وذلك الشاعر الأعمى!.
وكانت “الحيدر خانة” أكثر منطقة بغدادية يمكن أن ترى فيها عدداً من العميان يجلسون في المقهى، أو يبيعون الصحف، أو يتلون الأدعية، أو يعبرون الطريق، زرافاتٍ ووحدانا، كل واحد منهم يضع يده في يد الثاني. أيّام زمان رأيت عدداً منهم يجوبون الشوارع في المناطق الشعبية ويحفظون كل حفرة فيها عن ظهر قلب. يضربون الطبول ويقومون بدور المسحراتي، أو يصعدون على سطوح المساجد ينادون الناس إلى الإفطار أو الإمساك فهم يقومون بديلاً عن مدفع الإفطار.
والموسيقار المصري سيّد درويش كان أعمى. ومن أجمل ألحانه “زوروني كل سنة مرة حرام” اقتبسها من سلطان الطرب في زمانه ملّا عثمان الموصلي وكان أعمى هو الآخر. وقال لي الفنان الدكتور سعدي الحديثي إنه التقى في بداياته برجل أعمى من بلدة حديثة واستمع لنصائحه الغنائية على طريقته في الأداء.
هنالك مثل يقول: كل ذي عاهة جبّار. بمعنى موهوب. وأبو العلاء المعري كان يلعب الشطرنج والنرد ويفوز في اللعبة حتى يظن الآخرون أنه “ساحر” وكان يقول: أنا أحمد الله على العمى كما يحمده غيري على البصر.
وللجاحظ كتاب ظريف طريف يحصي (البُرصان والعرجان والعُميان والحولان) فمن الحولان أبو جهل بن هشام، ومن العميان بشار بن بُرد، ومن البُرصان الحارث بن حلّزة اليشكري، ومن العوران الأحنف بن قيس.
أعمى القلب لا يرى شيئاً وبصير القلب يرى كل شيء ولو فقد عينيه. وفي القرآن الكريم قوله الحق: ” فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور”.. والشاعر محمد مهدي البصير كان يرى أكثر من أيّ بصير، وقصائده كانت منشورات ثورية تُتلى على كل شفة ولسان أيام ثورة العشرين فتشعل النار في كل مكان.
كانوا يقولون الحب أعمى. لكن ثبت أن العميان يرون الكثير مما لا يعرفه المبصرون. والشاعر الرقيق نزار قباني لخّص كل ذلك في بيت من الشعر عندما خاطب طه حسين قائلاً:
إرمِ نظّارتيكَ ما أنتَ أعمى
إنما نحنُ جوقةُ العميـــانِ!.
إرسال تعليق