المحطة

مشاهدات



فائزة محمد علي فدعم


احيانا كانت والدتي حين تكثر المشاغل في البيت وخصوصا عند الكصاص في البستان ( الكصاص : يعني موسم جني التمور بعد نضجها ) او عند صنع الشربت سنويا او عندما يتم تنظيف المنهول ( البالوعة ) او عند مجيء ضيوف مهمين او غسل ملحقات الفندق العائد لنا الكائن في منطقة العلاوي الذي كان اسمه ( فندق الامين ) ترسلني مع خالي الى البستان لخوفها من مشاكساتي وتسلمني في ايدي امينة ...


نمرُّ في المحطة التي كانت مُزدهرة وجميلة جدا عند ذهابنا صباحا ونمشي بمحاذاة مقهى الحاج سباب ومقهى الحاج مناتي وكذلك بأشهر البقالين في ذلك الوقت وهو عبود ابن هيدي الذي كان دكانه كبيرا وفيه جميع انواع الفواكه الذي يقع مقابل البريد الان . كان بجانبه محل بيع الطوابع والمحطة تكتظ بالناس والسيارات الخشبية والنوع الاخر الذي يسمى ( النيرن ) التي تأتي من طريق معسكر سعد قبل بناء الملعب الذي كان يطلق عليه ( الريفية ) وهي قادمة من ايران وقصر شيرين من الشمال لزيارة الاضرحة او التجارة وتطرح احمالها في فسحة كبيرة قرب المحطة ...


تنتظرها سيارات اخرى بعد تفريغ البضاعة ويأتي الزبائن لشراء ما يحتاجونه بالمفرد او الجملة . كنت ارى عجالي اليهودي وهو يلتقط القناني الفارغة وعلى ظهره الكيس ( الكونية . الشوال ) لان السكارى كانوا يحتسون الخمر ليلا حتى لا يراهم احد فأكثرها ( قجغ ) او يتم صنعها في البيوت او مُستوردة ويقوم ببيعها الى المنازل لاستخدامها في حفظ الشربت او الدبس او شراب الرمان او ماء الورد او سبع مايات .


كان يطرق الابواب بيتا بيتا ونحن نشتري منه كمية للاستعمالات التي نوهت عنها سابقا وبعد تنظيف القناني وغسلها ونشرها فوق السطح للتعقيم يذهب الفائض منها الى الخرابة لجمعها وتباع الى المعمل للتدوير . كان عابد اليهودي وغلامه يأتون صباحا ويفتحون البالوعة الموجودة في باحة المنزل . كان عند الغداء لاياكل الطعام المقدم له واحيانا تقوم الوالدة بصنع البالوتة وهي نوع من الحلوى التي كان يتناولها عابد بنهم ويتلذذ بها وفي الشتاء عندما تكثر الامطار يزداد الطلب عليه لتنظيف المجاري من خلال صفائح الالمنيوم ( التنكة ) التي يضعها في عربة يجرها الحمار ...


كانت الفرش والاغطية التي تستخدم في الفندق تجلب الى البيت لغسلها في اوان كبيرة تسمى ( الطشت ) بعد خلع غطاء اللحاف والوسائد التي كانت اصعب عملية لأنه بعد غسل وجه اللحاف يقومون بخياطته مجددا وكانت المواد المستعملة في الغسل هي صابون الهندية والجويت . وهي عبارة عن قطع زرقاء توضع بعد الغسل لإعطاء الشراشف البيضاء شكلاً جميلا وكانت الرغوة تصبح عالية جدا نقوم نحن الاطفال بأخذها من سطح الطشت ونفخها حتى تبدو كالغيوم الصغيرة وكانت النسوة اللاتي يقمن بالمساعدة في يوم الغسل من المتعففات اللواتي يعملنَّ لقاء اجر بسيط وكنت ارى ايديهُنَّ كيف يصبح لونها كلون الدم من شدة الدعك ثم يقمنَّ بنشر الغسيل فوق السطح .


في احيان كثيرة كنت اذهب مع خالي عندما يأخذ السجل اليومي الى الشرطة ليراجع الضابط اسماء الاشخاص الذين يبيتون في الفندق والقادمين من كل مكان ويقوم بختم الورقة يوميا وفي احد الايام صعدت معه الى الفندق وهو عالي جدا وكان فيه خزنة ( القاصة ) فرميت مفاتيحها من شباك الغرفة الى الشارع وبعد البحث تبين ان احد المارة قد وجدها واعطاها الى صاحب العلوة التي كانت تحته وعندما سال عنها خالي وجدها عنده وقال لي محذرا ( اقسم يمينا باني لن اصطحبك بعد الى أي مكان ابدا ولولا خوفي من الله لرميتك من اعلى الفندق )


عندما كنت امر بالعلاوي اجد السيد عبود الدروش واخيه واهل الشلب ( الشلابة ) لجلب الهرطمان والماش والدخن والسمسم ودهن الحر والجبن الذي كان يؤتى به من قبل اشخاص من داخل او اطراف بعقوبة وكذلك الرز بأنواعه العنبر والنكازة والاحمر والدكة والحنطة والشعير والباقلاء اليابسة وكنت ارى السيد فخري باقر العلوجي والسيد فاضل مطر وبيت غيبي والعلاوي العائدة الى السيد داوود دبدب ...


ومن الطرائف التي اذكرها انه كان هناك بنات جميلات صغيرات يقعدنَّ في رأس العلاوي لبيع الخبز في اوعية تسمى ( الطبك ) وكان يأتي شيخ عشيرة معجب بإحداهنَّ وكانت تجلس مقابل دكان قاسم الكواز ويقوم بشراء الخبز كله حتى يحصل على ابتسامة لطيفة وعند رجوعه إلى البيت يوزعه على الفقراء وهذه القصة يعرفها كل اهل بعقوبة القدماء . كان يحبها ولسان حاله يقول :


كما قال الشاعر يوسف بن لؤلؤ بن عبد الله الذهبي وهو من شعراء الدولة الناصرية في دمشق :


ياعاذلي فيه قل لي عن حبه كيف أسلو


....... يمرُّ بي كل حين وكلما مرَّ يحلو


أضناه الشوق حتى تزوجها ولم براه بعدها احد

0/أرسل تعليق

أحدث أقدم