ابتسام عبد الرحمن / تونس
تلعثم، ارتبك، جفّ حلقه، لم يجد ما يجيبها.. هربت الكلمات من شفتيه و هو الأستاذ المتمكّن من اللغة العربية طوال عقدين من الزمن. هربت الكلمات من شفتيه و هو الشاعر الذي ذاع صيته هنا وهناك.. الآن على التوّ يعجز عن الكلام، عن كشف حقيقة مشاعره نحوها.. " ترى ما سيقول لها و هو من آثر الهروب من حبّهما؟؟ " لم يحفل بتوسّلاتها و مدامعها و هي ترجوه:
- أرجوك كامل، ابق معي و سأساعدك في بناء مستقبلك. بل سنبنيه معا يدا بيد.. ثق بي، لدي معارف و وسائط في أغلب الوزارات والمؤسسات.. ستنجح و أفوز بك، إنّها أول مرة ينبض القلب.. أول مرة أعشق، لقد عشقتك...
و ضاع صوتها و رجاؤها بين الجداول و التلال.. و راح كامل يجوب الأصقاع رثّ الملابس حافي المشاعر إلا من ذكراها..
غمغم: " غدا ستنساني..". و انبرى يرقص كطير جريح.. و ظلّ حتى... فُتّحت أمامه أبواب. و وجد نفسه ينجح في امتحانات الكفاءة في التدريس.. وجد نفسه ينال جوائز و جوائز.. و تعالى صوته و ظلّ يصّاعد..
اكتنز كبراو عظمة.. اكتنز شموخا و رفعة.. تزوّج كامل و أنجب ثلاث بنات.. و امحت من ذاكرته كل المدامع .. كل الآلام و الشقاء الذي عاشه في طفولته.. بيد أنه كان على موعد كل ليلة مع عشقه لتلك العيون السود.. لتلك العيون البريئة.. كان لأكثر من عقدين على موعد كل ليلة مع تلك الحشرجة.. اكتنز رغبة جامحة في أن يعرف أين هي.. حبيبته تلك.. حتّى ظنّها مجرّد جنيّة ظهرت أمامه في ليلة صيفية قرب شاطىء قليبيا.. لكنّه كان على يقين أنها ارتعشت بين أنامله و هو يضغط عليها بحنوّ.. صوتها المتوسّل ما يزال يقتله، يعذّبه: " كيف أمكنه طردها من حياته بكل تلك القسوة؟؟"
أراد أن يصرخ بأعلى صوته: " حبيبتي، سنكون معا " لكنه خاف أن يخالف قانون الأعراف في مدينته بالجنوب التونسي.. لا يمكنه أن يتزوج من إمرأة من جهة أخرى.. و لا أن يخالف أوامر أمه..
ظلّ كامل مبتسما على الدوام، منبسطة أساريره و الحيرة تبطش بالفؤاد...
مر عقدان من الزمن و كل ما يريده أن يلتقي حبيبته الجنية تلك... التي ستفتح له أبوابا مغلقة ..
ذات فجر، أعدّ حقيبته، و توجّه نحو محطة الحافلة..
لقد قرّر أن يزور مدينة قليبية و يجلس لذات المكان بالشاطىء.. فربّما...
توهّج شوقا و حنينا.. و توهّجت شوقا دفينا لأن تراه و لو آخر مرة..
كان نداءها هذه المرّة متفاقما.. نداء أفزع الكون و أفزعه... ظلّت تنتظره أن يعود طوال عقدين من الزمن، ظلّت تمدّ له يد العون و تفتح له الأبواب و ما كان يدري...
ظلّ حبيس العادات والتقاليد و حبّها...
أخيرا بلغ المكان بالشاطىء، كانت حبيبته الجنية تنظر إليه مودّعة و المدامع تخنقها و السؤال يدميها..
و وحده كان الوجد يأتلق و يئنّ.. معلنا في توسل للبقاء: " اسألي عني الليالي..."
إرسال تعليق