إبراهيم رسول
الذاتُ المبدعةُ, التي أنتجت النصّ الإبداعي, هي التي نعني بها في عنوان القراءة التي نقرأها في قصيدة ( وتقول إنك عاشق), فالواضحُ أن صوتين اثنين في هذه القصيدة قد ظهرا, صوتٌ للأنثى الإنسانة, وصوتٌ للمبدعة الشاعرة المتمثلة بالمبدعة الشاعرة, فالصوتانِ قدما النصّ بصورةٍ متكاملة , فصوتُ الأنثى هو الإحساسُ العالي والعاطفة الكبيرة, وصوت الشاعرة, هو الأداةُ المعبرةُ عن الحواس العاطفية في المرأة, فالأهمية تكمن في كليهما معاً, فالنصُّ بدون المرأة الإنسانة يكون باردًا, والنصُّ بدون الأداة التي تعبر عنه يكون مشوهًا, فالاعتمادُ عليهما معًا, أعطى الحيوية للقصيدة, وأكسبها الحيوية والإحساس والتأثير في المتلقي.
المرأةُ في شعرِ الشاعرة يسرى بيطار هي الأكثر حضورًا, ولها الهيمنة في الخطاب الشعري العام, ولعلّها في هذا تُثبت ذاتها الأنثوية عبر جعلها ذاتًا مركزيةً, المتلقي النموذجي بحسب تعبير مكائيل رفاتير, سيجدُ أنّها تمثلُ صورة الأنثى المستقلة عن الآخر, وليس التابعة له, بل هي شخصٌ لهُ كيانهُ الخاص الذي يمثلهُ. في قصيدتها هذه, تستحضر في مخيلة القارئ, صورًا كثيرةً من الشاعرات اللواتي حافظن على ذواتهن الأنثوية بمعزل عن الآخر, لغةُ الشعر عندها هي لغةٌ أنثويةٌ بلسان الأنثى الخالص من أيِّ تأثيرٍ آخر, فهي تعبيرٌ عن وجدانها الأنثوي بمعزل عن التسلط الذكوري في المكون المجتمعي, بل هي تعبر عن مشاعرها وعواطفها الوجدانية بلغتها من دون أن تعتمدَ على لغةٍ ذكوريةٍ, لتستنطق لغة الشعر, فالشاعريةُ عندها متوهجة سيالة نقية مليئة بالعواطف والأحاسيس الصادقة.
إنّ القراءةَ الأولى أو الخارجية لنصّ قصيدة " وتقول إنّك عاشقٌ" للشاعرة د. يسرى بيطار, لا تُثير المتلقي الكسول الذي يريد من الشاعر أو الشاعرة أن تأتيه باللغةِ والثيمة المستهلكة ليستوعبها الاستيعاب التام, فهو قارئٌ سلبي لا يعوّل عليه في قراءةٍ تُعطي للقصيدة التفاعل الايجابي, فهذه القصيدة على الرغمِ من قصرها إلا أنّها أثارت المتلقي غير النمطي, المتلقي الباحث عن المعنى العالي في لغةٍ عالية أنيقة, تُثير باطن النفس وتهزها , وتحدثُ الأثر الفعّال في المتلقي الايجابي, الذي يتلقى النصّ المتمرد على اللغة الاعتيادية, وانطلاقًا من مقولة الناقد د. صلاح فضل: إن القارئ لا يقوم بوظيفة سلبية في عملية التواصل باعتبارهِ مجرد متلقٍ فيها, بل إن وظيفته بالغة الايجابية والدينامية؛ فالقارئ يتدخل في خلق القصيدة ابتداءً من تصورها الأول, ممارسًا فعاليته بطريقة نشطة من داخل الشاعر ذاته. ( أساليب الشعرية المعاصرة, دار قباء للطباعة والنشر والتوزيع, القاهرة, 1998, ص 23). يتضح من هذا أنّ القارئ على اختلاف مستوياته أو خلفيته الثقافية المعرفية يبقى العامل الإيجابي الذي يقدم للقصيدة الشيء المهم في تطورها وتمددها بين القرّاء . فمن خلال عنوان القصيدة, نجد الأنثى حاضرة بوصفها ثيمة مهمة رئيسة, وهذه الأنثى تخاطب الآخر, قد لا يعني أنّها تخاطبهُ لأجل الخطاب فحسب, فهي تصف مشاعرها ونفسيتها وشخصيتها وما تحب أن تكون, ليعرف الآخر كيف يتعامل معها وفق الكيفية التي تريدها هي. تقولُ في أوّل بيتٍ من القصيدة:
ماذا أفكّرُ والمساءُ يطولُ
ولكلِّ خمرٍ في المساء هطولُ
كأنّها تستعمل اسم الاستفهام ( ماذا) غير استعمالها الاستفهامي بل تلّمح إلى التعجب, التعجب يأتي في معنى الاستدراك أو التأمل في النصّ وليس ردًا على سؤالٍ ما, فهي تقصدُ كيف تفكر, في مساءٍ سيطول عليها التفكير فيه, فكأنّ وقتَ المساء غير كافٍ لتفكيرها, فهي محتارةٌ , وتستعملُ الخمر في استعمالٍ مجازيٍ , إذ كيف يهطل الخمر في المساء! الخمر الوارد في الشطر هذا, يشيرُ إلى الدموع, التي تقترب من معناها وتوقيتها, إذ في المساء, وعند الخلوات والهدوء يبدأ الليلُ ينزل بجلبابهِ على كثيرٍ من الناس, الذين لديهم ما يؤرقهم فيبكون بزفرات حارة, فالاستعمالُ البلاغي كان بديعًا, إذا كان وفق هذا التصوير البديع, لأنّ اللغةَ مفتوحةٌ على أبوابٍ تأويليةٍ كثيرة, ولكن تبقى القراءات محض تأويلاتٍ, يُرجح المعنى التأويلي الأقرب لروح المعنى الحقيقي في خيال الشاعرة.
الشاعرةُ في هذه القصيدة تستعملُ اللغة في غير معناها المباشر, فهي تأخذ المفردة من اللغة إلا ان توظيف المعنى بعيد كل البعد عن المباشرة, استعملت اللغة في معنى إبداعيٍ باطنيٍ. إذ تقول في البيت الثاني من القصيدة:
شرّع جداركَ كي تبيتَ حمائمٌ
ما لي سوى ذاك الجدارُ طُلولُ
الجدارُ في هذا البيت, ربما يعني فيما يعنيه, الحاجزُ الذي يفصل بين شيئين, ولعلهما مكانين, ربما تكون غرفتين, فهي لا تريد جدارًا بينها وبينه, تريد اِتحادًا في الأرواح, فهذا الجدار الذي يجب أن يشرعَ هو مكانٌ أليفٌ, تألفهُ الحمائم, فالأنثى تشبه الحمامة في أنّها تحتاج إلى مكانٍ أليفٍ رقيق.
ونتفق مع مقولة الناقد بشير خليفي الذي يقول: إن قراءة النصّ قد تختلف بحسب كل قارئ, بل لدى القارئ الواحد تماشيًا مع حمولتهِ الفكرية وكذا الظروف المعرفية المحيطة به, هذا ما يطرح إشكالية العلاقة بين الذات العارفة, وموضوع المعرفة. (الفلسفة وقضايا اللغة, الدار العربية للعلوم ناشرون,ط1 سنة 2010, ص18).
القارئ الذي يتلقى هذه القصيدة, ستختلف الانطباعات التي يكونها نتيجة التلقي الإيجابي أو السلبي للنص الإبداعي, فاللغة تستعملُ في معنى عميق غير نمطي, فهذه تأخذك إلى معنى المعنى للغة الإبداعية عبر أدوات اللغة العربية ذاتها, فهي مجددةٌ لكن التجدد من الداخل وهذا يعني أنّها تحافظ على رصانة لغتها ومرونتها في الوقت عينه, وهذا هو المعنى الحقيقي للشاعر المبدع, الذي يأتيك بالأفكار النيّرة الجديدة كل الجدة متناسبة مع لغة العصر ولكن بالحافظ على الجوهر العريق للغة الأم. وهذا ما لمسناهُ في هذه القصيدة التي تنفتح على أبوابٍ تأويليةٍ كثيرة, ولكل باب من هذه الأبواب متلقٍ يتفق ومتلقٍ يختلف, كلٌ وحسب المرجعيات الأدبية والحالة الي تلّقى فيها القصيدة. ونعودُ إلى القصيدة لنقرأ البيت الثالث منها الذي تقول فيه:
أنا بالقميصِ أشدُّ نحوك غربتي
كي لا يضيعني هناك أفولُ
نقرأ هذا البيت وفق القراءة التي تستعين بالسرد لتقترب من معناها الدلالي, فالتساؤل الأوّل يكون عن دلالةِ هذا القميص الذي يكون أداةً في الشد والاقتراب نحو المخاطب والعلاقة بالغربة! فالفراقُ أو الابتعاد المؤقتِ , يعني فيما يعنيهِ الغربة الموحشة, وهذا القميص دلالة للروح التي تريد أن يحتضنها المخاطب بروحه, فهي تخلع القميص الذي تلبسه لتشد به أواصر العلاقة بينها وبينه, وهذه بلاغةٌ جميلة جدًا, وأما الشطر الثاني, يبدو التساؤل فيه عن دلالة اسم الإشارة ( هناك ) فلماذا لم تقل هنا أفول؟ فإذا كان الرحيل يعني معه أي هناك, فلماذا تستعير مفردة ( هناك) إشارة البعيد! فربما تعني هذه الأنثى الماثلة في هذه القصيدة, أنها معه ( هنا) وبدونه ( هناك) وهذا من بديع القول الشعري الذي يعتمد في هذا التصوير اللغوي الذي يسحر المتلقي في قراءتهِ لهذا النصّ الإبداعي.
ويأتي البيت الرابع والخامس اللذان تقول فيهما:
تعبٌ وإني لا أعودُ صغيرةً
إلا لتهمي من نداك سيولُ
مذبوحةٌ عيني لحُسن تلهّفٍ
واللحظُ من شغفِ الجراح رسولُ
الفكرةُ في هذين البيتين, تتجلّى واضحة مباشرة المعنى للمتلقي, كأنّ استخدام السردية في الشعر تستدعي بعض العقلانية في الخطاب, وهذا الحوارُ الذي تبدو فيه كأنّها هي المتكلم الوحيد في الحديث الذي دار بينها وبينه, القطع السردي أو الاستراحة في السرد تمثل هنا في هذين البيتين, فتحول كلامها من خطاب إلى وصفٍ لحالتها الذاتية .
ويستمرُ وصفها حتى تقطعهُ في البيت الذي تقول فيه:
وعلى حدود المقعدين تنهّدٌ
أسمعت صوتَ الصّمت كيف يجولُ
ويقولُ: لي بعضُ الشتاء ونجمةٌ
ولهنّ من خدعِ الحنين فصولُ
في هذين البيتين, تبدو الشاعرة حكيمةً أكثر منها شاعرة, وكأنّها تريد من خطابها أن تتجلّى فيه الدلالات التأويلية الكثيرة, وتنفتح القراءاتُ على عدد القرّاء الذي يتلقون النصّ, فالحكمةُ ضالة المتلقي الذي يبحثُ عنها في شعر الشاعرة, وقد تمّثلت هنا في أجلّى معانيها ووضوحها. وبعد خطابٍ شعريٍ مكثفٍ, وبعد سلسلة حوارٍ ووصفٍ تتنهد لتلتقط الأنفاس اللاهثة, وتقطع الحديث وتكتفي بهذا القدر من الكلام لتقول:
قد تهتُ بينكَ, حاضرًا ومغيباً
وتقول إنك عاشق وتقولُ
بعد كل هذا الحديث الذي خوطِبَ فيه الآخر, يحق لنا أن نسأل أو نتساءل أين هو الآخر الذي نسمع له أيّ كلمة فيما سمع, أو أُلقيَ عليه من حديث, فصوتُ غير مسوع ولا يبدو عليه التأثر فيما أُلقيَ عليه من قولٍ بليغٍ وبحماسةٍ بالغةٍ التصوير, في هذا البيت الأخير, تختصرُ الشاعرة كل فكرة الخطاب بل فكرة القصيدة كلها, ولعل هذا البيت يمثل ما وصلت إليه الأنثى في ذروةِ حكايتها, إذ يبدو أنها كانت تُعاتبهُ في الأبيات كلها ما قبل البيت الأخير, ليأتي الشطر الأخير من القصيدة ( وتقول إنك عاشق وتقولُ) لينهي الحديث الذي لا حديث بعده, لتنتهي بذلك فكرة العتاب, فهو قد حيّرها بحضورهِ وغيابهِ معًا, وقد تاهت في هذا الحضور والغياب.
هذه القصيدة تمثلُ المعنى الإبداعي اللغة, أو تمثل الوظيفة الإبداعية للغةِ, التي تنتقلُ من معناها العادي المباشر إلى المعنى الأعمق والأكثر تركيزًا وبلاغةً, تبدو الأنّثى في هذه القصيدة قوية الشخصّية, وإحساس عاطفي كبير, لتستمر تعاتب الآخر كل هذا العتاب وتنهي حديثها بأنّ الآخر لم يكن بالمستوى الطموح لها. قرأنا القصيدة بوجهةِ نظرٍ تمثل صاحبها, وقد تبدو هذه القراءة واحدة من القراءات وليس جميعها, لكنها اهتمت باللغةِ الإبداعية, العابرة للمعنى المباشر إلى المعنى العميق والبعيد. الشاعرةُ في قصيدتها هذه, لا تتوقف مع القضايا والأشياء والمرئيات والمحسوسات الصغيرة واليومية وحتى الهامشية على ذاتها بوصفها كيانات قارّة, بل نراها تسعى لاكتشاف الأثر الوجودي الكوني, فهي لا تتوقف عند مادية القضايا التي تناقشها في شعرها, بل هي تذهب إلى معناها الذاتي, وأثرها في حياتها اليومية, الأشياءُ الوجوديةُ يجب أن تتعاملَ معها بكلِّ جوانبها, ولا تقتصر النظرة إليها من الخارجِ, وهذا ما يجدهُ القارئ في شعر يسرى بيطار عمومًا, فهو شعرٌ يعنّى بالقضية من حيث الأثر الوجودي أو الكوني وليس الوصف الخارجي فحسب, ومن خلالِ قراءة القصيدة بصورةٍ كبرى شاملة, نخلُص إلى أنّها ترسمُ صورة للأنثى المستقلة والطموحة التي تعبر عن ذاتها بذاتها, فهذا القصيدة من القصائد التي رسمت صورة للأنثى غير الصورة النمطية المستهلكة التي تعيشها في الواقع اليومي, هذا الرسم كان عبر استحضار اللغة الأنثوية واستعمالها في حديث الذات الشاعرة أو في شعرية الذات الناطقة بقضايا ومشاعر الأنّثى.
إرسال تعليق