د. سحر أحمد علي
ومِن حاضرٍ ما زالَ يستلبُ جُلَّ تفكيرِنا واهتمامِنا، ويأسرُنا بتفاصيلَ يوميّةٍ قسريّةٍ، حاضرٌ: الحضارةُ فيه في احتضار، والخواطرُ فيه في انكسار، أعودُ لأرجِعَ بذاكرتي إلى ماضٍ يُحاكيه صعوبةً وقسوةً وحِرماناً، بل وأكثر! ولكنه ومع ذلك هو ماضٍ يُعبّر عن الزمن الأصيل الجميل، فذلك الماضي وعلى الرَّغمِ مِن قسوةِ العيشِ فيه، ومِن خلوّهِ مِن أيّةِ تقانةٍ مِن تِقْنِيّاتِ العصر، ومِن أبسطِ ضروراتِ العيشِ والمَدَنيّةِ فيه، إلا أنّ آباءنا وأمّهاتنا وأجدادنا كانوا وبالفِطرة السمحاء والأصالة والإباء، قد ارتقوا في الوجدانيّة وسموا في الإنسانيّة، بعفويّةٍ عريقة وببساطةٍ عميقة، فوجدوا أنّ أسمى ما في الوجود هو جبرُ الخواطر وإكرامُ الزائر، وأستحضرُ هنا -مِنَ الماضي الأصيل الجميل- بيتَ العائلة الكبير بزوّاره، المُتواضع بأسراره، فقد كان يقصده كثيرونَ مِنَ الأفاضل شباباً وشيباً (رجالاً ونساء)، قاصدينَ: [وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ]، سواءٌ بنعمةِ الكلام أم بنعمة الطعام، في أجواء ملأى بالمحبّة والطّيبة والسَّكِينةِ والإيمان..
وفي أحد الأيام وبعد تقديم مائدةٍ كبيرةٍ من الطعام للزائرين، رأيتُ والدتي (أم نزار- هند) وبنخوتها المُعتادة وفي غرفة جانبية، تسكبُ في عبوة واسعة لأحد المُحتاجين، فأسمعه يقول لها: "الله يعوضكم من نعمه ويرحمكم برحمته"، فترد عليه والدتي: "هذا من باب الله.. هذا محبة بالله.. والخير من الله وفي سبيل الله وبما يرضي الله"..
هذه التلقائيّة العِرفانية كانت تذكرني بما أحفظه من الكتاب المقدس: "وكل ما تعملونه، فاعملوه في المحبة".. وقول السيد المسيح "ع": "لو قدمتُ أموالي كلها للإطعام وسلمتُ جسدي لأحرق وليس عندي محبة لما كنتُ أنتفع شيئاً"..
فليس يصل إلى القلب إلا ما كان من القلب، "إلا من أتى اللهَ بقلبٍ سليم"..
وكانت والدتي قد حدثتني عن أجدادها في الجبل عموماً، وعن جدتها (زهرة الجبل الصالح) خصوصاً، فقد كان يقصدهم كل من يسمع بهم ومن كل حدب وصوب..
رجعت بها ذاكرتها إلى حين كانت طفلة صغيرة، قالت لي: "دخل رجل نحيل حاني القامة بجلباب مهترئ وقدمين خشبيتين حافيتين، لسانه ثقيل لا يكاد السامع يفهم منه ما يقول، تستمر والدتي بالحديث فتقول: كانت أبواب مضافات أجدادنا الحجرية مفتوحة دائماً، أضافت قائلة: دخل هذا الضيف القاصد وهو يتمتم: هوبث..هوبث.. فنظرنا إليه باستغراب نحاول فهم ما قال، ويرحّب به جدي (الصالح) أهلاً بك تعال واجلس، فردّ عليه القاصد بـ (تأتأة): هو.. هو.. هوبث! هنا نظر إليه جدّ والدتي فقال له: ماذا تعني؟ فقال: هوبث.. من أين أتيت؟ أين أهلك؟.. هوبث.. ماذا تريد يا بني؟ هوبث.. هوغوبث.. وتتابع والدتي: بقي هذا الرجل يردد ويقول: هوبث هوبث هوبث.. حتى ظننا أنه مُطارد من أحد الخبثاء وجاء يحتمي بنا.. لكن إصراره على تكرار لفظته (وما زال القول لوالدتي) جعل جدتي (زهرة الصالح) -وكانت من أكرم النساء في عصرها- تكتشف ما يُريد هذا السائل، فوقفت وربتت على كتفه، وبفراسة الكرماء قالت: أظنني عرفتُ قصده، وعلى الفور همست لابنتها (سكينة) لتُحضر هُبثاً: (خبزاً) .. فتلبي طلبها بأقصى سرعة، وتأتي له بالخبز.. وما إن رأى ذلك الرجل الخبز حتى جحظت عيناه وتسمّرتا عليه وعلت شهقته المكان.. يأخذ الخبز ويقبل أيدي جدة والدتي (زهرة الجبل الصالح) التي ربتها فتطبعت والدتي بطباعها الخيّرة إلى أقصى حدود العطاء والكرم والجود..
ولأنّ الشيء بالشيء يُذكر، ومن جيل إلى جيل، أستذكر جيل العمة (سلمى الشيخ أسعد- أم صلاح)، هذا الجيل الذي تربى على فطرة الكرم والمحبة نفسها، الجيل الذي استمر بصنع خبز (التنور)، والذي نراه اليوم بتقنية حديثة على طريق السفر والرحلات!! خبز يمزج بين الماضي والحاضر كنوع من التراث المستمر..
قالت لي صديقة ذات يوم (أم أيهم) وكانت شابة صغيرة آنذاك.. إن عمتك (أم صلاح سلمى) كانت من النساء الصالحات وأكرمهن في عصرها وأمهرهن في صنع الخبز، إضافة إلى حياكتها لملابس الأحياء والأموات، وحضورها الرئيس في مراسم وفيات النساء، وتتابع (أم الأيهم مرسل سعاد زاهر) قائلة: عندما كنا نزور قريتكم كانت رائحة خبزها تصلنا من بعيد، فنتسارع ونتهافت إليها فتستقبلنا بملقاها الجميل وطلتها البهية وابتسامتها الرائعة وبكل سخاء.. تقول: (أهلا أهلا أهلا .. كلوا كلوا من خير الله.. ألف صحة على قلوبكم).. وتتابع الصديقة فتقول: كنا في كل مرة نأتي إليها وهي تخبز تقدم لنا كل ما في الطبق من خبز!! ونراها تعود به فارغاً إلى البيت لتعجن وتخبز من جديد.. وتُطعمُ من جديد!!
الكرم شجاعة، وفي الكرم تلتقي السماء بالأرض والآخرة بالدنيا، والمحبة كرم: "لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ.." نعم: الإنفاق مِمّا نحب، ونحن على ذلك النهج مستمرون، ننفق مما نحب، أيَّ شيءٍ توزّعه ينقص ما عدا المحبة فإذا أنفقتها زادت! هذا ما كان عليه الآباء والأجداد.. ونحن على نهج ما ورثناه عن الآباء والأجداد سائرون.. ومهما كان من ضيقٍ وشظف، ولا نسمح للظروف ومهما قست علينا أن نكون غير أنفسنا، نحن نحن، نحن الماضي في الحاضر والمستقبل في الحاضر. ومن ليس له تاريخ ليس له حاضر، والحكمة من كل ما ذكرت: لا تحجب الإحسان عن أهله إذا كان في وسعك أن تجود به، وكل ما تعملونه فاعملوه صالحاً في المحبة لأنّ الله محبة والكرم محبة والإحسان محبة..
في سورية الخير والمحبة.. وما أكثرَ كرمَكِ سوريتنا.. أرض الخير والعطاء والمحبة.. عاشت سورية..
إرسال تعليق