الصراع الثقافي في "نقطة الإنحدار" قراءة للدكتور وليد جاسم الزبيدي

مشاهدات


 

 قراءة: د. وليد جاسم الزبيدي

الكتاب قراءة في رواية ( نقطة الانحدار ) للدكتورة فاتحة مرشيد- ط1، 2022م، عدد الصفحات: 188 صفحة
الناشر: المركز الثقافي للكتاب-الدار البيضاء – المغرب.

المقدمة/


 مع ولادةِ كلّ روايةٍ، للروائية (فاتحة مرشيد)، نجدُها من ذات الجينات، فهي من رحمٍ واحد، لكنْ؟، لكلّ ولادةٍ ووليدٍ شخصيتهُ وهويتُهُ ، وما ينمازُ بهِ عن أخوته، والجميع ربطهم حبلٌ سريٌّ واحدٌ يغذّيهم ويكبرون من خلاله .
 هذه الرواية(نقطة الانحدار)، تحملُ رسالةً جديدةً مبتكرةً روائياً وفي المخيلة، واقعية النشأة ومُعاشة،كما سلّطت الروايات السابقة على مشاكل في عالمنا، أو ماسكتت عنهُ المؤسسات الرسمية وشبه الرسمية، لتضعه تحت المجهر وتعتبرهُ قضية رأيّ عام. وهنا نتفاعل ونتعاطف مع شريحة ليست بالقليلة هي شريحة (المشرّدين).

عنوان الرواية:

في كل رواية، يولدُ من رحمها عنوانها، وكأنه كائنٌ يولدُ وينمو ويكبر حتى تستقيم صورته، لم أجد عنواناً طارئاً في رواياتها. وهكذا وُلدَ عنوانُ الرواية : 1- ص39: (لأنّني لا أحبّ الحفر الصغيرة أُفضّلُ الكبيرة... على الأقل يمكنُ السقوطُ فيها.). 2- ص53:... وصلَ الى قمة النجاح ينحدرُ الى القعر.. /... السبب هو ما أسمّيه ((نقطة الانحدار)).  3-ص54: قبل أن أنحدرَ بدوري، كنتُ قد زرتُ مكاناً في " نيوزيلندا" اسمهُ: ((نقطة الإنحدار .))../ كلّ منّا عرفَ نقطة الانحدار هاته.. 4-ص56: أليسَ ممكناً تجاوز نقطة الانحدار..؟ 4-ص60: أعني قبل الانحدار؟ ،

المُشرّدون بين (الحرية و الحُلم):

 تَشَرَّدَ:في اللغة ، في المعجم العربي:تشرّدَ: (فعل) ،تشرَّدَ يتشرَّد ، تشرُّدًا ، فهو مُتشرِّد،تشرَّد الرَّجلُ: هام على وجهه لعدم وجود مأوى له ولا وظيفة،تَشَرَّدَ أَهْلُ القَرْيَةِ : تَفَرَّقُوا، تشرّد بين الأزقّة والشّوارع: تسكّع، شَخْصٌ مُتشرِّد: لا بيت له ولا وظيفة، يتجوَّل بدون هدف مشيًا على الأقدام، قائمًا بأفعال غريبة أو سائلاً الناسَ لكسب معيشته.(المعجم الوسيط:ج1/478).
هناك نوعان من المشرّدين، الأول: الحالة السلبية التي يعيشها الفرد في الإدمان والتسكع، والمتاجرة اللامشروعة، وعصابات القتل، وهناك منهم الكُسالى والتافهون والسّذّج،ومنهم المريض أو المعاق، (وهم من العامّة، والطبقة المسحوقة)، والثاني: الذين يفقدون عملهم ولايستطيعون سداد إيجار الشقة أو الغرفة،وهم في أكثر الأحيان من الطبقة المثقفة ومن الأكاديميين.
الحرية في الرواية، هي جزء من الحُلم بل ترتبط به في حالة واحدة، وتتنوّع هوية الحرية، في : التحرر من الخوف، من السقوط، من الموت.
  قدْ يظن المتلقي في البدء، أن الحُلمَ في الرواية حلماً واحداً وواضحاً يسعى اليه الجميع، كل أطراف الرواية وشخوصها..؟ وبكل بساطة يقولُ هو (الحُلُم الأمريكي) الذي أضحى كابوساً بالنسبة للكثيرين. حُلُم الشباب للوصول الى قارة(العم سام) والى بلد الحريات وتمثال الحرّية،الذي يمثّلُ التحرر من العبودية وقهر الحُكّام..؟؟!
وهو البلد (الذي ينتجُ أكبر عدد من العلماء والباحثين والحاصلين على جوائز نوبل والمستقطب لأذكياء العالم.)، ولكن ( لا أحد في أمريكا مُحصّن ضد التشرّد).
   لم تكنِ الرواية بهذه السطحية كي تشير الى هذا فقط(الحلم الأمريكي)، بل هو جزء من مجموعة أحلام عاشها شخوص الرواية: 1- حُلم عبد الله البردعي (والد الغالي)، اللقاء بولده. 2-حُلم الغالي ، التحرر من استبداد والده، وتأسيس جمعية لمساعدة المشردين . 3- حُلم حميد: رجوع حليمة وزواجه منها. 3- حُلم (حليمة): التخلص من زواجها والعودة الى(حميد). 4- حُلم (كارلوس/ البوّاب): اللقاء بعائلته وهجرتهم من المكسيك الى أمريكا. 5- حُلم (ميريل جونسن/ والدة شارلي): اللقاء بإبنها(شارلي). 6- حُلم (المشردين/ الهوملس): الحصول على مفتاح بيت.

الأمراض وأشكال الموت في الرواية:
 
 مثل ما كتبتِ الروائية في رواياتها وقصصها السابقة، حيث تشهر الأمراض والعاهات الجسدية والنفسية عند الانسان وشخوص الرواية، تستمر هنا في ذكر عدد من الأمراض النفسية والجسدية والأوبئة، منها مرض الآيدز(ص:47)، مرض(السينيستيزيا) أو اضطراب الحس أو الحس المرافق، التوحّد( متلازمة أسبيربيرغ) الأطفال المفرطي الذكاء، (ص: 142)، مرض الذّهان، مرض الذهان النفاسي، مابعد الولادة، (ص: 145).
   كما أخذ (مرض كورونا) مساحة في الرواية، كونه مرض العصر والساعة إبان كتابة الرواية، فكان توثيقا صحياً وتاريخياً ليظل إشارة على مدى السنين لتسجيل هذا المرض الذي عطّل الحياة وأصيبت فيه كل الأعمال بالشلل، وذهبت فيه ضحايا بالملايين في دول مختلفة وفي كل القارات.
والى جانب الأمراض، كانت الإشارة في الرواية الى الركود الاقتصادي في العالم سنة 2008م، وماسببه من تأثيرات على ذوي الدخل المحدود والطبقة الوسطى في المجتمعات.
أمّا الموت في الرواية، ينقسم على أشكال، منها الموت بسبب الأمراض التي ذكرناها آنفاً، وهناك موت يشكّل مفارقةً عن موت الناس العاديين، هو موت المشرّدين، فالمشرّدُ (لا يموتُ بسبب الجوع والعطش، بل يموتُ بسبب العنف، وعدم وجود الاسعافات في حالة الإصابة بمرض أو حادث، ويموت المتشرّد بسبب الجنون). (وأنّ معدّلَ الحياةِ عند الهوملس يقلّ بثلاثين سنة عن عامّة الناس. ص:76).



المكان في الرواية:
 
يشكّلُ المكان تأثيثاً مهماً، تعتني بهِ الروائية، وتوظّف ذاكرتها البصرية والحسية ليشغل المكان تأثيراً في ذات المتلقي وتجعلهُ يتلمس أركان المكان ويتنفس هواءه، وتمنحه وصفاً دقيقاً، كأنها ترسم جغرافيا المكان بخرائط في ذهن القارىء.فلا تترك مدينة، ولاساحل، ولا زنقة، أو سجن، أو محطة، أو بحيرة، إلا وصفته، وكأنها تدلّك على مسارات خطى شخوص الرواية، وتعطيك صورة المكان وتدعوك للبحث عنه وزيارته حتى ولو على (جوجل) لتفهم وتعيش الحدث. ومن هذه الأماكن:
(مطار نيويورك/ ساحة تايم سكوير/ويست سايد-منهاتن/ نهر هادسن/بحيرة جاكي كينيدي/ مشارف هارلم/ سان فرانسيسكو/ كاليفورنيا/مفترق شارع كاسترو/ محطة هارفي ميلك/ لوس أنجلوس/الباسفيك كوست/ سجن الكاتراز/ جسر البوابة الذهبية/ ميشن ديستريكت/ تاندرلان/ جاك كيرواك/ مونتيري/ بيغ سور/ بيدراس بلانكاس/ قلعة هيرست/سانتا باربرا/ سانتا مونيكا. ).

نقطة الانحدار في الرواية:

ما دامَ أبطالُ الروايةِ وبناؤها ، في معظم مفاصلها اعتمدتِ المنهج الرياضياتي، في تصوير بعض المشاهد وتحليل المفاهيم وفق لغة الرياضيات لكونها (لغة الكون)، وما نتج عنها من معادلات خوارزمية، وما تفرزه الحوارات في البناء الدرامي( في الشخصيتين الرياضيتين: الغالي وحميد)،(الحب معادلة ذات مجهولين/ص:66)، وهكذا انعكست هذه الروح على بنية العنوان الذي أصبح مرتكزاً رياضياً أيضا، فدالّةُ الانحدارِ تشيرُ الى علاقة التبعية بين الظواهر، فلكل قيمة متغير توجد قيمة متغيرة أخرى مقابلة لها، وهذا العنوان ايضا يحيلنا الى البيانات الاحصائية والتحليل الاحصائي اللوغاريتمي، ورسومات وتخطيطات البيانات في الصعود والهبوط، كما في حال رسم تصاعد السكان في بلد ما، أو في العالم، أو رسم البيانات لمرض ما، أو الأسعار..الخ. من خلالها يتم بناء التخطيط لما يكون أو ايجاد احتماليات رياضية للمستقبل.
  وهكذا ينطبق الرسم الاحصائي في تصوير ايقاعات حياة كل شخصية في الرواية، والتي تمثل شريحةً مجتمعية، حيثُ تتحدّدُ متغيّراتها ومعادلها الرياضي، ماقبل الانحدار، والذروة، ونقطة الانحدار، ثم النكوص أو الصعود.
    ماقبل الانحدار: يشكّلُ تاريخ الانسان وسيرته في الحياة الانسانية والعملية، وكيفية تراكمية العمل والخبرة والمنجز، الى أن يصل الذروة.
نقطة الانحدار: هي النقطة التي تعتبر المتغير القيمي والكمي في ذات الانسان وعمله نتيجة لوجود ظروف طارئة أو مفاجئة لم تكن في الحسبان، كالعوق، التعرض لحادث، المرض ، التسريح من العمل،فهنا تتأثر الحالة بالمتغيرات، نتيجة خطأ من الأخطاء، أو لمتغير سببي أو انعاكس في العلاقة الاحصائية، بل وتتدخل أمور أشمل وأعم كالمتغيرات في الأزمات الإقتصادية وحدوث الكوارث.فهذه العوامل تؤدي بصعود اتجاه الخط من الذروة والانحدار نحو الأسفل.
الصعود أو النكوص: في هذه النقطة التي تكون فيها البيانات الاحصائية قد انحدرت، تتدخل عوامل ومتغيرات خارجية أو ذاتية، تجعل من الانسان أو المؤسسة، أمام حالين أما الخروج من نفق الانحدار لتسترجع توازنها ثم الصعود، في حال انتعاش الاقتصاد، والحاجة الى خبرات محددة، ووجود فرص، أو حالة الانحدار هذه ستكون في حالة نكوص لا مجال لإرتقاء الخط البياني نحو الأعلى لتفاقم الأزمات وتدهور الحالة النفسية للفرد وعدم قدرته على التأقلم ووضع حلول لأزماته.
    وفق هذه المعايير سارت شخصيات الرواية، مثلاً (الغالي) قبل الانحدار له تاريخ عائلي ودراسي مكّنهُ من تنامي قدراته والوصول الى التخلي عن جلباب والده والخروج من دائرته، وصل الى ذروة الحلم للوصول الى أمريكا ويكون ترايدر ناجح ومتمكن، ثم كانت نقطة الانحدار لأسباب وضعه العائلي وتنامي روح الكراهية في نفسية زوجته (ريبيكا) وابنته (سارة)، ومتغيرات أخرى دخلت في حياته أنه لم يتمكن من التخلص من تأثير والده( عبد الله البردعي) الذي كان يسري في دمه، فنقل تجربة والده عليه وانعكست في تصرفاته مع ابنته. فكان في الانحدار(هوملس) ، وحاول أن يصحح من مساره والرجوع الى بلده إلا أن (كورونا) كانت سبب وفاته.
كما أن هذا المسار ينطبق على (حميد) في عمله وطموحه وحلمه، ثم نقطة الانحدار التي أصبحت نتيجة زواج حبيبته (حليمة)، لكنه لم ييأس ، فعاش لحظة الصعود بعودة (حليمة) واللقاء بها مرة والزواج منها وتحقيق حلمه.
وهناك العديد من نجوم السينما الذين ورد ذكرهم في الرواية ، هم نجوم هوليود، ولهم جوائز عالمية، استطاعوا من تخطي نقطة الانحدار ليكونوا نجوماً ويحققوا أحلامهم بعد أن كانوا مشرّدين (هوملس).
وعلى قول (حميد): (كلٌّ منّا عرفَ نقطة الانحدار هاته وهي تختلفُ باختلافنا فلكلّ منّا عاصفته التي كسرتْ ظهرَهُ، فأمالتْهُ شيئاً فشيئاً الى أن أقعدتْهُ أرضاً. ص:54). وقول (حميد) في حواره مع (جوردن) عن الانحدار أيضاً:(بالنسبة للإنسان هو تدحرج نحو الجحيم... ومع ذلك فقد قرّرتُ أن أجدَ في انحداري جمالاً. ص: 54).
أمّا ماقالهُ الفيلسوف (جوردن): (..قبلَ سنوات، أعني قبل أن أنحدرَ بدوري، كنتُ قد زرتُ مكاناً في (نيوزيلندا) اسمهُ ((نقطة الانحدار))، تهبّ فيه العواصفُ من جهة واحدة، بحيث أصبحتِ الأشجارُ كلُّها مائلة لجهة ، وهذا بالمناسبة يضفي عليها جمالاً لا يوصف يجلبُ السّيّاح من كل أقطار العالم.).


 صراع الثقافات:

بسم الله الرحمن الرحيم ((وفي أموالهم حقٌّ معلوم للسّائلِ والمحروم.)) سورة الذاريات: الآية/19.
في الرواية صراع داخلي يجري مجرى المونولوج في النص الشعري، ويشكّلُ (باك كراوند) فيها، في قضايا وعُقدٍ ومفاصل مختلفة ومتنوعة في أحداث الرواية، هذه الرواية وماقبلها صنيعة الروائية (فاتحة مرشيد) لا أعتقد هناك من النقّاد منْ يجنّسها ويصنّفها ضمن مابعد الحداثة أو النص المفتوح، هي تضخّ علينا قيماً ورؤى متعددة، تزخر بأفكارٍ تنثرها في فضاء المتلقي الذي يتابع أنفاس الشخصيات وعطر الأماكن، إذن هي روايات أفكار، تعطينا شفرات، وأسماء وأماكن وأغانٍ وعناوين كتب، وأسماء أفلام... كلها تبعث في المتلقي أن يجاري ويواكب صفحات الرواية كي يفك شفراتها ويضع الحروف في مربعات بيضاء كي يجد فيها كلمة السر، والرقم الغائب عند ترايدرز البورصات، وتمنحنا فرصة مواكبة مايجري عالمياً ومحلياً، لنجدَ مفاتيح المغاليق. هكذا نجد أفكار ورؤى في الأحلام وفي مشاكل مجتمعية وأمراض، وفي ظواهر مثل (المشردون/ الهوملس) ومجتمع(جي-بي-تي)، والحريات، وأشكال الموت، لتجعل من كلّ شيء في متناولك دون النظر الى الجغرافيا وحدودها.
  وتتداخل في هذه الرواية الصراع الثقافي ( الحضاري والديني) في ظاهرة (التشرّد/ الهوملس)، وكيفية التعامل معها ، بين (حضارةٍ أمريكيةٍ) تنتجُ ناطحات سحاب، وأقماراً صناعية، ومفاعلات نووية، لكنّها تقيّد الانسان بالآلة، وبساعات العمل، والقوانين الصارمة، وسيادة رب العمل، في حضارةٍ أمريكية تمنحك فرصةً للعمل لكن لا أحدَ محصّن ضد السقوط والانهيار فجأةً وأن يكون ضمن دائرة(نقطة الانحدار)، حضارة تؤمن بالمال، ولا تؤمن بالانسان، تُنمّي الأموال، وتُسرّح الملايين في الشوارع، تتعامل بالأرقام ولا تضع هامشاً للمشاعر .
لذلك نرى الظواهر الاجتماعية ضمن( نقطة الانحدار) طافحةً على السطح ، ظاهرةً للعيان.
في حين لانجد بحدتها في عالمينا العربي والاسلامي، تلك الظواهر بذات الشدة والحدة هناك(أمريكا)، لأسباب منها (ونحنُ نتكلم عن ظاهرة التشرّد) أن مجتمعاتنا فيها أعراف وأخلاقيات تشجع على التكافل الاجتماعي ومساعدة الغير، ونصرة الجار، وهناك ركن مهم في أركان الإسلام (الزكاة) وضرورة وجود العدالة الاجتماعية( ولو أنها لم تطبق كما يجب) وكذلك ما جاء به القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف في ضرورة المؤآخاة والتعاون والمبادىء السمحة. و (حب لأخيك ما تُحبّ لنفسك).
روايةٌ جعلتنا نقتفي حرفها وصورها وترتقي بنا لنفكّ ما استغلق منها، وفيها رسالة انسانية كبيرة للنظر الى شريحة مهمة في المجتمع لا ينبغي تجاهلها ففيها العالم والفنّان والأديب والمفكر.
 



































0/أرسل تعليق

أحدث أقدم