جمهورية البخاري: لا مكان للمفكر والآراء الحرة أمام دغمائية المؤسسة التقليدية الإسلامية؟

مشاهدات




بقلم: الكاتب والباحث السياسي 

الدكتور أنمار نزار الدروبي


لا جديد في عالمنا، فالعقل البشري الحر أعجز في كل إمكاناته الذاتية أن يغيّر شيء من معادلات التراث الإسلامي وما جاء به (البخاري) على أنه من أهم علماء الحديث عند أهل السُنة والجماعة، أبرزها كتابه (الجامع الصحيح والمشهور باسم صحيح البخاري). بالرغم أنه من مدينة بخارى إحدى مدن أوزبكستان وتوفي في مدينة سمرقند في أوزبكستان أيضا. الغريب في الأمر أن بين البخاري وبين الرسول (ص) حوالي 200 عام، وربما يسأل الكثير عن السُنة النبوية بعد وفاة الرسول الكريم وفترة الصحابة رضوان الله عليهم جميعا، وقبل مجيء البخاري، هل كان المسلمون لا يعرفون شيء عن تعاليم السُنة إلا أن جاء البخاري وعلمنا سُنة نبينا العظيم؟

 بالتالي فإن البخاري هو (كبيرهم الذي علمهم السحر) حيث استطاع بمؤلفاته التي أصبحت مقدسة أكثر من القرآن لدى شريحة كبيرة من المسلمين عن تعطيل السُنن والتلاعب في قوانين الكون، مقابل ذلك، أيمكننا الجزم بأن كل شيء على ما يُرام. ثم نقتنع بأن الصراع الذي يدور في عالمنا بين الفكر الحر المتجدد وبين جمهورية البخاري وبجميع حيثياته وكوارثه ما هو إلا حالة طبيعيّة تُحسب على توازن الكائنات.

وتأسيسا لما تقدم، لا بد من الاعتراف أن هناك إشكالية كبرى تواجه الأمة الإسلامية، تلك الإشكالية تكمن في الصراع بل الصدام الأزلي ما بين الثقافة السياسية لرجل الدين أو الفقيه وبين دعاة الحداثة والتجديد بعيدا عن منظري الوسطية في الإسلام، حيث لا يوجد شيء أسمه (الإسلام الوسطي) وإنما هي أكذوبة وقحة على تحريف تعاليم ومبادئ الإسلام الأصلية، وإن ما يسمى بالإسلام الوسطي لا يختلف عن الراديكالية الإسلامية لأن المنهاج واحد والمرجعية واحدة (أبن تيمية ومحمد عبد الوهاب وأبو الأعلى المودودي وليس انتهاءا بأفكار وأدبيات سيد قطب). بيد أن هذه الصراعات ليست مقتصرة على واقع الأمة الإسلامية لكنها امتداد لأوروبا وأتباع الديانة المسيحية، فعندما حاول الفيلسوف الهولندي (باروخ سيبونزا) أحد أعلام الفكر الحر في القرن السابع عشر أن يتعامل مع الإشكاليات الناجمة بين الفلسفة والعقيدة المسيحية في كتابه (رسالة في اللاهوت والسياسة) سرعان ما اتُهم سيبونزا بالهرطقة وأقصي من طائفته التي كان ينتمي إليها. وعليه لا مكان للمفكرين وللتحديث حيث يسود سلطان المؤسسة التقليدية الإسلامية لسببين وهما:

1. الدغمائية التي لجمت كل خطاب يدعي التجديد وعدم السماح لأية خيارات في التحديث فيما يخص البناء الأولي التي اعتمدته المؤسسة التقليدية الإسلامية منذ وفاة الرسول العظيم محمد (ص).

2. الطريقة اللاعقلانية في فهم القرآن اجتماعيا وتاريخيا وسياسيا التي جعلت رجل الدين يحصر اتباعه السذج في الإشباع الروحي من خلال العبادات فقط. لاسيما أن المؤسسة الدينية كانت وماتزال حازمة في معاقبة وتجريم وتكفير كل من يحاول المساس بالموروث الديني وخاصة الموروث التفسيري، وهو التراث، ذلك التراث الذي اصلا هو نتاج بشري يقبل الخطأ والصواب، إلا أن هذا الموروث أسس لحالة من الجدلية لن تنتهي إطلاقا من منظور فلسفي لا يمكنه التعاطي مع الموروث التفسيري.

  من هذا المنطلق أصبح التراث الإسلامي مقدس لا يمسه إلا المطهرون وغير قابل للتجديد، أما رجل الدين فهو الآخر خط أحمر لايمكن تجاوزه، وبالتالي فإن المؤسسة الإسلاميّة التقليدية باتت بكل مرجعيتها وتفرعاتها وانتمائها وخطابها التقليدي المأزومة في منزلة القداسة، بعد أن سيطرة الفكر الديني على المعرفة بتقويض الفلسفة وتهميش الرأي الحر.

في السياق ذاته، فإن تحليل الثقافة السياسية للمؤسسة الدينية له عواقب وتداعيات يتعرض لها كل من يحاول تفكيك هذه الجدلية، فتارة تعتمد هذه المؤسسة على أطروحات ومفاهيم ومرجعيات تأخذ شكل الخطاب المتشدد والراديكالية، حيث نجد الخطاب الجهادي والتكفير والوصول إلى السلطة اعتمادا على العنف. وتارة أخرى نجدهم يتبنون الخطاب الذي يميل إلى الاعتدال ورفض التكفير والدعوة إلى التغيير من خلال المشاركة السياسية. إذن فهي تعبير عن جوهر البراغماتية في الثقافة السياسية للمؤسسة الدينية، وهي بذلك تعكس جملة من الانعطافات والتحولات الآنية في مسارها التاريخي، لكنها تبقى محتفظة في مسارها العقائدي والنظري وتحديدا في حالة الصدام مع الفلسفة والأفكار الحرة.

هذه المؤسسة الدينية التقليدية خاضت أشرس المعارك حتى مع علمائها ومفكريها الأوائل وضد بعض المفكرين الإسلاميين خارج نطاق الإسلام السياسي. على سبيل المثال لا الحصر المفكر الإسلامي وعالم الدين الفقيه المصري (محمد عبده) الذي يعد أحد دعاة النهضة والإصلاح في العالم العربي والإسلامي، ومن أهم رموز التجديد في الفقه الإسلامي، وهو تلميذ ( جمال الدين الأفغاني) حاول عبده إنشاء حركة فكرية تجديدية إسلامية في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين تهدف إلى القضاء على الجمود الفكري، مع العرض أن كل مؤلفاته وفلسفته تؤكد على أن الإسلام لا يتعارض مع المنطق والعقل والدين والعلم والتسامح وحرية الرأي، وقد خاض عبده عدة معارك للدفاع عن اطروحته وتحديدا في كتابه (الإسلام والنصرانية بين العلم والمدنية). ثم جاء المفكر الإسلامي المصري (علي عبد الرازق) الذي أصدر عام 1925 كتابه (الإسلام وأصول الحكم) الذي يدعو فيه إلى فصل الدين عن السياسة، وأثبت بالأدلة الشرعية عدم وجود دليل على شكل معيّن للدولة في الإسلام، بل ترك الله الحرية في كتابه للمسلمين في إقامة هيكل الدولة، على أن تلتزم بتحقيق المقاصد الكلية للشريعة. بمعنى أن علي عبد الرازق دعى إلى استقلالية الدين عن السياسة. وشواهد أخرى في قمع الأفكار والآراء لم ينكرها التاريخ، حتى الفيلسوف (أبن الرشد) ذو الفلسفة الأفلاطونية، حيث كانت لبعض مؤلفاته صدى واسعا في عملية التجديد مثل كتاب (فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال) ومؤلفه الآخر (تهافت التهافت) الذي رد فيه أبن الرشد على كتاب أبو حامد الغزالي (تهافت الفلاسفة).

بالنتيجة فقد اصطدمت كل هذه الأفكار التنويرية والآراء الإصلاحية بدغمائية المؤسسة التقليدية وموروثها التفسيري، حيث لم تتردد تلك الدغمائية من لجم كل هذه الأفكار واعتقال التفسير في زنازين التراث.



0/أرسل تعليق

أحدث أقدم