قراءة استشرافية للخروج من نفق الأزمات في تونس

مشاهدات



الدكتورة جعفر صبرينة - مختصة في شؤون الأمن وسياسات الدفاع


الأستاذ الدكتور حكيم غريب - خبير أمني واستراتيجي


  حين تتصفح ما يُكتب في وسائل الاعلام التونسية أو العربية والعالمية نتوقف عند     عناوين فيها الكثير من التنسيب حول مدى نجاح الثورة التونسية التي هزت العالم وشغلته لأشهر وأرست المثل وكذبت كل المعتقدات في عدم أهلية المنطقة للديمقراطية والحرية، فعناوين الصحف والأخبار تُشي بشيء من الخيبة مثل “الحلم الذي لم يكتمل” أو “خيبة الأمل” أو “السجل السلبي للثورة” أو  تونس إلى أين؟ 


فبعد عشر سنوات من الثورة تواجه الديمقراطية الناشئة في تونس، رهانات غير مسبوقة ومخاطر، قد تغير نظرة العالم إليها ويكون ثمنها باهظا. لكن ما سبب هذه الرهانات، وهل من ضوء في آخر نفق الأزمة التي تمر بها تونس؟


ويُعتقد على نطاق واسع في تونس بأن الأزمة الناتجة عن تداعيات جائحة كورونا رغم فداحتها، ليست وحدها ما يفسر المعضلة التي تواجهها تونس، بل هنالك بُعد آخر أكثر تعقيدا وتراجيدية.  فمنذ الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، وحدث ذلك خلال التجاذبات الحادّة بين الرئاسات الثلاث: رئاسة الجمهورية، رئاسة الحكومة، رئاسة البرلمان، وفي غياب المحكمة الدستورية التي تعتبر وسيلة حيوية للحفاظ على توازن مؤسسات النظام.

وفي ظل استمرار الأزمة السياسية والدستورية يحاول الرئيس قيس سعيد القيام بجملة من الإصلاحات قد تكون شفافة وشاملة، ولكن رغم ذلك يجب أن تكون الإصلاحات شاملة للمجتمع المدني والأصوات السياسية المختلفة.


إن تعيين وتكليف الأستاذة الجامعية نجلاء بودن تشكيل الحكومة التونسية المقبلة استثناءً؛ سواء في الداخل التونسي وفي الخارج، وقوبل بإشادة جل الأحزاب السياسية والمنظمات. غير أن عدداً من السياسيين تساءلوا حول مدى الصلاحيات الحقيقية التي ستُمنح لها، في ظل التدابير الاستثنائية التي أقرها الرئيس قيس سعيد منذ 25  جويلية الفارط.  


وفي حين يرى البعض أن الرئيس قيس سعيد أنهى بهذا التعيين سيطرته على السلطة التنفيذية بشقيها (رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة)، فإن تساؤلات الأوساط السياسية انصبت منذ الإعلان عن هذا التكليف حول حدود التحرك والقرار التي ستُمنح لرئيسة الحكومة، وهل ستكون رئيسة حكومة تملك سلطة القرار؟ أم مجرد رئيسة للوزراء تنفذ برامج وخيارات قيس سعيد؟.


إن القرار الذي اتخذه رئيس الجمهورية يوم الأربعاء الفارط، بتكليف امرأة غير معروفة في المشهد السياسي هي نجلاء بودن (63 سنة) بتشكيل حكومة جديدة في أقرب الآجال، ويفترض أن تتشكل الحكومة ضمن الإجراءات الاستثنائية التي يسير بها رئيس البلاد منذ شهرين، ليس ضمن الدستور الذي قام بتعليق معظم أبوابه، بعدما جمد أعمال البرلمان في 25 جويلية الماضي.


ومن جهة أخرى، كان رد الشريك السابق في تسيير شؤون تونس ينذر بأن الأزمة يمكن أن تحول تونس إلى ساحة صراع طويل ومزمن، وكانت حركة النهضة حذرت الرئيس قيس سعيّد من أن استمراره في العمل خارج الدستور سيفاقم أزمات البلاد وحذرت من أن تكليف رئيس حكومة من دون التقيد بالإجراءات الدستورية، وعلى أساس أمر رئاسي؛ قرار غير دستوري يعمق الأزمات الإقتصادية والاجتماعية في البلاد وطالبت النهضة باستئناف المسار الديمقراطي من خلال التراجع عن الأمر الرئاسي 117، وعبر إكساء الحكومة المقبلة الشرعية الدستورية بعرضها على البرلمان لنيل ثقته، كما ينص عليه الدستور في كل الحالات، وفق ما ورد في نص البيان.


وحسب تصورنا لا تبدو نهاية نفق الأزمة السياسية في البلاد قريبة، خاصة أن المشهد السياسي يبدو اليوم ملبّدا بغيوم التشاؤم، إزاء فرص نجاح أي حل سياسي، بسبب غياب أجندة واضحة للحوار في ظل تداخل شديد لأبعاد الأزمة التي تواجهها البلاد.  وأز الرئيس سعيّد الذي تُوجه إليه انتقادات من عدد من الساسة والإعلاميين في البلاد، لما يعتبرونه افتقادا للدور التحكيمي المتوازن بين أطراف اللعبة السياسية، الذي يفترض أن يتحلى به الرئيس. 


ومع مرور السنين وتفاقم الأزمة الاقتصادية والاجتماعية في البلاد وغياب آفاق للخروج منها، تزداد مؤشرات التذمر واليأس في أوساط التونسيين، وخصوصا الشباب، وتظهر تجلياته في احتجاجات متواصلة في عدد من مناطق البلاد. كما يؤدي انسداد الآفاق بالنسبة للشباب إلى ظهور بؤر تطرف وارتفاع نسبة الهجرة غير الشرعية نحو أوروبا وهجرة الكفاءات إلى قارات مختلفة من العالم.


فالنظرة المتشائمة لأوضاع تونس لم تعد فقط  وطنية، بل تم تصديرها للخارج، ذلك أن أجواء الحرية وبعض المكاسب التي تحققت بعد الثورة، باتت تغمرها صورة سوداوية للأوضاع، ترسخها يوميا بعض وسائل الإعلام المحلية النافذة، التي يتفنن بعضها في إبداء الحنين لعهد الديكتاتورية.

ويبدو أن معضلة تونس تتأرجح بين مسؤولية طبقتها السياسية التي تُمعن الانخراط في الصراعات السياسوية الضيقة، وبين مسؤولية أوروبا والغرب الذي طالما يكيل لها المديح في الإعلام كاستثناء في بلدان الربيع العربي، لكنها بالمقابل لم تحظ - وحتى مقارنة مع أنظمة مستبدة في المنطقة - بالدعم المالي والاقتصادي الكفيل بوضعها على سكة الإقلاع التنموي. خاصة في ظل  استمرار جائحة كوفيد 19 التي لم تزد الاقتصاد  التونسي إلا تأزما وهو الذي يشكو اختلالات هيكلية منذ زمن بن علي، إذ لم تكن عوامل المحسوبية والفساد المالي والمستقبل السياسي الغامض لتونس هي فقط التي حركت الغضب الشعبي منذ انتفاضة الحوض المنجمي سنة 2008 وإلى غاية 14 جانفي 2011، فالدولة التي كان لها دور مهم في تدوير الاقتصاد خلال العقد الأول للاستقلال من خلال تأميم المؤسسات وبناء المشاريع إضافة إلى دورها الاجتماعي بدأت تفقد شيئا فشئيا مكانتها عبر تحرير الاقتصاد والتعويل على الاستثمار الخارجي، منذ سبعينيات القرن الماضي، وقد بلغ التحرر الاقتصادي مداه خلال فترة التسعينيات باندماج تونس في الاقتصاد العالمي والاتفاقات التجارية مع الاتحاد الاوروبي.


وكان لهذا الاندماج وهذه الشراكة ارتدادات خطيرة أحيانا، إذ جاءت على حساب العدالة بين الجهات.  

هذا إضافة إلى التقلبات الاقتصادية وغياب الاستقرار السياسي والعمليات الإرهابية ومحاولة الحكومات المتتالية تلبية مطالب عشرات آلاف المواطنين في الشغل، ضمن الوظيفة العمومية، مما أثقل كاهل الموازنة العامة وزاد من نسب التداين…والأخطر أن التداين لا يأتي لخلق الثروة، بل لتطعيم الاستهلاك، مما يجعل فائدته التنموية منعدمة.


فقرار الرئيس قيس سعيد في تعيين الوافدة الجديدة على المشهد السياسي اقتراح فريق متجانس، يعمل أولاً على مكافحة الفساد، ثم الاستجابة لمطالب التونسيين، المرتبطة بحقهم في النقل والصحة والتعليم. وأكد أنهما سيعملان معاً بإرادة وعزيمة ثابتة للقضاء على الفساد والفوضى، التي عمت الدولة، وهو ما يعني، أنه وضع ثقته برئيسة الوزراء نجلاء بودن، بعد أن عبر خلال السنتين الماضيتين عن «تعرضه للغدر» من قبل رؤساء حكومة اختارهم هو بنفسه، خصوصاً حكومة هشام المشيشي التي رفض التعامل معها، وأقفل أبواب الحوار معها.


ومن جهة، يمكن أن هذا التعيين له أهداف أخرى أولها أنها تغير موازين القوى وتصب كلها في صالح الرئيس؛ لأنه يظل الممسك بالقرار السياسي بفضل الأمر الرئاسي، الذي أصدره في 22 سبتمبر  الماضي، والذي ينص في فصله الـ«16» على أنه هو نفسه من يعين رئيس الحكومة والوزراء وكتاب دولة. كما ضبط الفصلان الـ«17» والـ«18» من الأمر الرئاسي صلاحياتها، بحيث تسهر الحكومة على تنفيذ السياسة العامّة للدولة، طبقاً لتوجيهات واختيارات رئيس الجمهورية. كما تكون الحكومة مسؤولة عن تصرفها أمامه، وهو ما لم يكن متاحاً سابقاً لرئيس الجمهورية خلال تشكيل الحكومات السابقة، التي كانت مسؤولة أمام البرلمان الذي يراقبها، ويمكن أن يوجه لها لائحة لوم أو يخضعها لسحب الثقة.


في المقابل تتوالى المواقف الحزبية المنددة باستحواذ سعيّد على كل السلطات، ورفضه الحوار مع القوى السياسية والمنظمات الاجتماعية، أعلن النائب في "الكتلة الوطنية" بالبرلمان التونسي العياشي زمال أن 90 نائبا أمضوا على بيان يدعو النواب إلى استئناف أعمالهم بحلول يوم الجمعة.

فالحين، يبقى المشهد السياسي بعد تكليف رئيسة الحكومة يواجه العديد من التحديات، أبرزها الكفاءة والقدرة على تسيير الحكومة، خاصة أنه طيلة 10 سنوات عانت تونس من سوء اختيار رؤساء الحكومات، وأن اختيارات الرئيس سعيد تعتمد على الولاء المطلق لا الكفاءة.


وأمام هذه التحديات التي تعمق الأزمات في تونس نعتقد أنه للخروج من هذا النفق لابد  من الضروري فتح حوار وطني جاد مع كافة الفاعلين السياسيين والمدنيين بشأن مسألة تعديل الدستور وإعادة النظر في النظام السياسي، وكذا إعادة النظر بشكل مشترك في النظام الانتخابي والهيئات الدستورية ووضع سقف زمني وخطة دقيقة للفصل بين السلطات. خاصة في ظل في المقابل، وجود تونس في وضع اقتصادي متعب جدا، والأزمة السياسية  والدستورية التي تعيشها تونس منذ عشرة سنوات قد عمّقت الأزمة الاقتصادية والاجتماعية لا بسبب المعارك الكلامية حول عديد المواضيع الهامشية التي لا علاقة لها بالمطالب الملحة التي ترفعها البلاد فقط، بل أيضا بسبب افتقاد السلطة للكفاءة والقدرة لإدارة شؤون الدولة، مما أضعف الدولة وأربك أدائها وأعطى فرصة للتيارات المتطرفة حتى تفرض أفكارها ورؤاها وتُدخل البلاد في دوامة من الصراعات العقيمة، وقد أظهرت انتخابات 2019 مدى الامتعاض من الطبقة السياسية وأدائها الضعيف، حيث صعدت تيارات شعبوية ترفع شعارات استمالت الناخبين برفضها لكل المنظومة القديمة ودعاويها امتلاك الحلول لمقاومة الفقر وحماية السيادة الوطنية والذود عن ثروات البلاد “المنهوبة”، وحرك بعضها الآخر مشاعر الحنين إلى زمن ما قبل ثورة الياسمين، كل هذه التيارات أثبتت عدم قدرتها على تغيير الواقع الاجتماعي، بل زادت الأوضاع تأزما بسبب غلوها وازدادت الشكوك في نجاعة مؤسسات الدولة وبرهنت على أن جل الطبقة السياسية لا تحمل مصالح الشعب ولا تعكس همومه، وحتى تحوير القانون الانتخابي سوف لن يساهم في ردم الهوة الفاصلة بين المجتمع وهذه المؤسسات، بل سيعيد ترتيب الأوراق فقط.


إن المعركة الضارية مستمرة، ويستعمل فيها الجميع كل الأوراق والأسلحة المتاحة المشروعة وغير المشروعة، الداخلية والخارجية ورغم ذلك فإنه وفي المقابل،  فمستقبل المشهد السياسي تحكمه  ثلاثة معطيات رئيسية؛ أولا ارتدادات الصراع على الطرفين المتصارعين، وضغط الرأي العام، إذ إن المعركة بينهما تحوّلت إلى حرب استنزاف طويلة المدى، أنهكت كليهما، فبغض النظر عما يصدر عن عمليات سبر الآراء، فالثابت أن مصداقية الجميع لدى الرأي العام تتآكل باستمرار، والشعب الذي يئن تحت وطأة أزمة حادة متعددة الأبعاد من المهاترات   السياسية والأيديولوجية، وكفر بنخبة ثبت لديه عجزها وفشلها كما لا ننسى أن هناك الأطراف الإقليمية والدولية، فـ "بارومتر" المشهد السياسي التونسي تحكمه أيضا مراكز الضغط الإقليمية والدولية، فلا شك أن تطبيع العلاقة بين قطر والسعودية، وبين تركيا ومصر، والمصالحة في ليبيا، وموقف القوى الدولية الفاعلة كالولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، الذي يميل إلى إنهاء حالة الاحتقان في الضفة الجنوبية للمتوسط، بدعم المصالحة والاستقرار في ليبيا، يدعم كذلك تجربة الانتقال في تونس.


 فنظريا ومنطقيا، كل هذه الاعتبارات، تدفع باتجاه التهدئة والمصالحة والانفراج، وتوفّر أرضية ملائمة لانطلاق الحوار الوطني وحل الأزمة، وبذلك يكون التصعيد الذي بلغ ذروته في الأسابيع الماضية بمثابة آخر الذخائر التي يتم إطلاقها، أو المحاولات الهجومية الأخيرة التي تهدف إلى كسب بعض المواقع من باب تحسين شروط التفاوض؛ والإسراع في فتح باب الحوار الوطني الجاد والصريح دون اقصاء  لأي  طرف. رغم تأكيد الرئيس التونسي قيس سعيد، عدم الخضوع لأي ابتزاز أو مساومة في تشكيل الحكومة الجديدة ببلاده، مضيفا أنه: من حق التونسيين والتونسيات أن يعيشوا بكرامة بكل حرية، وأن نستجيب لمطالبهم الإنسانية.


ولكن يبقى الحذر مطلوب من مخاطر انزلاق تونس إلى الفوضى والعودة إلى المربع الأول خاصة مع استمرار سعيد في مساره، تتصاعد تساؤلات بشأن الدور الذي يمكن أن يلعبه معارضوه، وإن كانوا قادرين على قلب موازين القوى ودفع البلاد إلى الفوضى العارمة، في ظل تحذيرات حزبية من حدوث فوضى بل وحرب أهلية وانهيار الدولة.

0/أرسل تعليق

أحدث أقدم