هل ستطرح الانتخابات نموذجا سوسيولوجيا للحكم بعد تهافت الأفكار العقائدية (الأيديولوجيا)؟

مشاهدات



بقلم الكاتب والباحث السياسي

الدكتور أنمار نزار الدروبي


لابد أن نبتعد عن الأحلام والتمنيات الغير واقعية على أن العراق كيانا واحدا، بل يجب أن نؤمن بأن كل مكون من المكونات العراقية بمختلف مسمياتها (قومية، عرقية، طائفية وغيرها) له خصائصه الاجتماعية والبيئية وسماته الإنتاجية، بيد أن تلك الخصائص ليس مصيبة ولا رغبة بتمزيق البلد. لكنها السياسة تلك الممارسة التي لا تنفك عن التلاعب في مقدرات الأمم والشعوب ولا تنفكّ عن التحايل وخلق جميع المشاكل، ربما لأن نزعة البرغماتية غريزة في البشر، وأن الصراع مكتوب على الأمة العراقية بمنطق جدل الحياة ودهاليز السياسة، أمّا التاريخ فليس له شأن أكثر من تدوين الوقائع ليترك لنا بصمات آثار الخلافات والانشقاقات. هنا نقف على حافة وجودنا كعراقيين لننظر الى الأمام فنترك ما نعجز عن استيعابه لنسجّل تاريخنا الجديد بطريقة شاذة عن المألوف الذي أتخمنا بأساطير الديمقراطية وسحر صياغة الأكذوبة الانتخابية. في زماننا تبدلت قوانين الأحلام، المقدّس السياسي فقد معيار وزنه فلم يعد أكثر من عامل كيل سياسي انتخابي لا يختلف عن الصاع الذي دسّه يوسف النبي في رحل أخيه ليبرر احتجازه، أمّا قصة الخداع فهي لن تنتهي عند نتائج الانتخابات، لتستمر الرحلة بعد الضياع ونستقر كما نُزعم (حضارة بلاد وادي الرافدين). ضمن سلسلة تاريخيّة بطريقة كهنوتيّة تعجن دماء الكثير من العراقيين. قطعا لا توجد مشاكل بين أبناء الشعب العراقي، فالشيعي والسُني والكردي والمسيحي وباقي مكونات الشعب الذي كان ضحية للشحن السياسي، لا يزال يحلم بالعيش في بلد آمن ومستقر هو العراق، لكنه بالمقابل يرفض تدجينه ليكون عبدا حيال إلوهية الكتل والأحزاب السياسية في وطنه.


بلا شك كانت ومازالت البنية الأيديولوجية هي الأساس الذي يُبنى عليها نظام الحكم في العراق بعد كل انتخابات، ليكون فيما بعد توجهاً يُلقي بتأثيراته على الواقع الذي نعيشه، وقد تعددت المنطلقات والأسس الفكريّة لتبرز في جوانب مختلفة للحكم أبرزها الأيديولوجية الدينيّة والسياسيّة، وكل منهما ينطلق من بناء فكريّ أو أسس فكرية تعالج الواقع. تتميز البنية الأيديولوجية لنظام الحكم في العراق، كونها تنطلق من منظومات فكرية متعددة ومتناقضة، تمزج بصورة غير متجانسة، بين الفقه المنضبط بقواعد وأصول، والفكر الاجتهاديّ الشخصيّ المحكوم باللحظة التاريخيّة الذي يُعبر عن مواقف أشخاص ورؤيتهم لقضايا معينة ترتبط بالأهداف التي يرغب صانع القرار السياسي في الوصول إليها. وبالتالي بعد هذه التجربة الأيديولوجية التي تتعدى أكثر من ثمانية عشر عاما، ومآلاتها وتداعياتها على العراق، مما يدل على وجود خلل فكريّ ومفاهيميّ في منظومة القيادة. وهذا يعني أن تجربة الحكم تمارس في العراق على مستوى العقيدة (وفق أيديولوجيتها) وليس على مستوى السوسيولوجيا أي إعطاء بُعدٍ اجتماعيٍّ للحكم، مما أدى إلى فشل منظومة القيم الاجتماعيّة والدينيّة والأخلاقيّة في تحقيق التوازن الاجتماعيّ والنفسيّ أو ضعفه، مما انعكس على نسبة كبيرة من المجتمع، حيث لم تستطيع إيديولوجيا السلطة وبرامجها الصمود أمام التحولات الطارئة، سيما أن نجاح الكتل والأحزاب وفشلها وإخفاقها في بلد ما رهينٌ بمدى قدرة التنظيم على التعبئة الاجتماعيّة. وأن هذه التعبئة تكون ناجحة إذا ما استطاعت أن تضم مختلف فئات المجتمع العراقي. وخلاف ذلك ستخسر كل الكتل والأحزاب السياسية المشاركة في الانتخابات أوراقها السياسية ليبدأ العد التنازلي في حسابات العمر الافتراضي للعملية السياسة. باستثناء كتلة سائرون (التيار الصدري) لأنها تمثل قاعدة جماهيرية واسعة وكبيرة جدا، حيث استطاع أعضاء التيار الصدري أن يقلبوا حسابات اللعبة السياسية إلى حسابات اجتماعية سوسيولوجية من خلال قدرتهم على التنظيم والتعبئة الاجتماعيّة. وأن هذه التعبئة كانت ناجحة باستخدام الشباب الحضريّ الفقير في إقحام الشارع الانتخابي.

 

 السؤال: هل نحتاج إلى نواة طبقة برجوازية تفرز ليبرالية للحكم؟

الجواب: بالتأكيد لا ولكن نحتاج إلى نظام اجتماعي سياسي جديد من نفس القوى السياسية الشيعية التي تقود التجربة، تلك القوى التي تستطيع أن تعمل على تطوير عجلة التحولات الاجتماعية والثقافية والسياسية لكي تتمكن من إصلاح اعتلالات التجربة برمتها، من خلال إصلاح أدوات الخطاب السياسي قبل إصلاح الخطاب نفسه، وعلاج أدوات التغيير قبل التغيير، وإصلاح أدوات المنهج قبل إصلاح المنهج، هذا هو الفارق الذي يلخص ثنائيّة وجودنا كدولة وليدة التجربة الديمقراطية وغير مستقلة بقرارها السياسي وبين شعب يحاول انتزاع حريته ويعبر عن رأيه كمصدر وحيد للسلطات. ووفقا لهذه الازدواجية يتطلب من القوى السياسية الشيعية تحديدا أن تنتج نظاما سياسا اجتماعيا مستقرا. لكن مشاريع السياسة تختلف وتحقيقها يتطلب مراحل وأجندات لكل مرحلة بتفاصيل سيناريوهات مسبقة يتم تنفيذها أو تمثيلها على أرض الواقع.


هذا هو علم الاجتماع السياسي، ذلك العلم الذي قال فيه عالم السياسة الفرنسي (موريس دوفرجيه) في كتابه علم الاجتماع السياسي " يعد علم الاجتماع السياسي علما للسلطة والحكومة والولاية والقيادة في كل المجتمعات، وإن التعرف على علم اجتماع السياسة لا ينفصل عن علم الاجتماع العام، لأن السياسة لا تشكل نطاقا منفصلا في المجتمع عن علم اجتماع العائلة، وعلم اجتماع المؤسسات، وعلم اجتماع العمل، وعلم اجتماع الرياضة وغيرها، وإن علم السياسة هو مظهر من مظاهر هذه الفروع" ص18.


أما المفكر (فيليب ريتور) ذكر في كتابه سوسيولوجيا التواصل السياسي " إن طبيعة العلاقة المقامة بين حاكمين ومحكومين تصدر عن نمط التمثيل السياسي الجاري في قلب المجتمع السياسي. فما من حكومة حتى وإن استلهمت من مبادئ فوق بشرية (من استدعاء الإلهة إلى شرعية النبي) أو انتسبت إلى الاستعانة بالقوة (مثل الدكتاتوريين) يمكنها الاستغناء عن كل دعم شعبي" ص33


أما التوظيف السياسي للأزمة يمكن أن يرى وبوضوح من خلال الصراع الشيعي_ الشيعي، وكما ذكرنا آنفا لا يوجد أي نوع من هذا الصراع مطلقا، ولمن يدرس تعقيد هذا الخطاب يلحظ أنه لا يرقى لأبعد من صراع إعلامي. بيد أنه يثير القلق الدائم والأزمات بما يخدم أهداف القوى الاستعمارية التي خططت له وتدعم وجوده. سيما أن هذه التمنيات والأحلام بوجود صراع بين القوى السياسية الشيعية الذي قد يؤدي إلى حرب أهلية، موجودة فقط في غباء الأطراف المناهضة للتحالف الشيعي، تلك الأطراف التي تعيش حالة من السعادة المفرطة بعد كل خطاب متشنج ومأزوم بين القوى السياسية الشيعية، حيث يحلم البعض بأن الوقت قد أزف لانقسام شيعة السلطة، وهذا غير صحيح ولا يمت للواقع بأية صلة، لأن الأحداث تؤكد ان بعد كل تصعيد بين الأطراف الشيعية، يتم تسوية الخلافات وتجاوزها. لكن في الوقت نفسه على القوى السياسية الشيعية بمختلف مسمياتها أن تبدأ بالصفحة الثانية بعد انتهاء الأزمة، وهي المراجعة الشاملة للسياسة الشيعية ليس في العراق فقط بل عربيا وإقليميا ودوليا من خلال دراسة الوزن الجيو سياسي للعراق برؤية شاملة.


وفيما يتعلق بالانتخابات، لقد أثبتت نتائج الانتخابات بأن هناك خطة مسبقة لمعالجة بعض القضايا بسريّة تامة خصوصا عندما تتعلق بمخاطر حقيقيّة لا تسمح بلعب الصغار، وكان أهمها هو تقديم أكباش فداء للتخلص من تبعاتهم السياسية، وبلا شك كان من المتوقع إعلان  نتائج القوائم والشخصيات الفائزة بهذه الطريقة  المربكة ستشعل سجال وحرب إعلامية بين الكتل الفائزة وبين الكتل التي تسمى (خاسرة) ولا نحتاج توضيح الكيفية فهي معلومة لكل عاقل يفهم أبجديات السياسة، هذا السيناريو سيكون أعظم أخطاء العملية السياسية منذ تأسيسها الى اليوم لأن الضحايا ستكون كارثية مفزعة، ولكن بالمقابل، ما هو ثمن تراجع بعض القوى السياسية عن تحقيق نتائج متقدمة الذي كان ينظر إليه قبل إجراء الانتخابات على أنه  عرس تاريخي في أغلب محافظات الوسط والجنوب التي ينتشرون فيها. حقا ستكون نكسة بخذلان جماهير كريمة دافعت عن العراق وأعطت آلاف الشهداء بقتالهم داعش الإرهابي بكل شرف وعزة وكرامة.

 


0/أرسل تعليق

أحدث أقدم