حديث العراق / مقاهى بغداد

مشاهدات



حسان الحديثي


أحب المقاهي عموماً ولا أكاد أمر من أمام مقهى الا وراودتني نفسي بالدخول اليه واستكشاف زواياه وطالما تبعتُ هواها وانصعتُ لما تميلُ اليه فنفسي امارة بالمقاهي. 

كان اول ولعي بالمقاهي حين كنا شباباً تتدفق دماء اللهو في عروقنا فلا نخاف عليها ضياعاً ولا نخشى عليها لائماً أو ناهياً حتى قرأت ما قاله محمود درويش:

مقهى، وأنتَ مع الجريدة جالسٌ

لا، لست وحدك، نصف كأسك فارغٌ

والشمس تملأ نصفَها الثاني ...

وصْفُ الكأس بـ "نصفٍ فارغٍ ونصفٍ تملأه الشمس" فيه دعوة ملحةٌ للتأمل وخلق الضجيج من حالة الوحدة التي يعيشها الوحيد في المقهى لقد كان محمود درويش يحسن العبور بلطف فوق المعاني وكأنه يمر عليها باطراف قلبه دون ان يُجفلَها، وحين قرأت له هذا النص ادركت لماذا كان يُحسن الوحدة كثيراً؛ فلقد كان يملأ وحدته بالمجاز. 

لأجل ذلك تراني أفتقد المقهى كثيراً عندما اغيب عنه وأشتاق للجلوس فيه، أشعر ان كلَّ شي فيه مؤنسٌ ومألوفٌ؛ وجوه الكبار التي تقرأ بين تجاعيدها الاف القصص، حيطانه وما علق عليها من صور لتنشأ بينك وبينها حالة من الصلة والفهم بعد حين، رائحة حبات الهيل التي تداعبك كلما مر النادل بقربك حاملاً صينية تتراقص فيها "استكانات" الشاي وقد ترسب في قعرها بياض السكّر، خيط عبير القهوة المتسلل من اقصى المقهى اليك بهدوء وحذر عاشق يدُورُ حول الحمى في الهزيع الاخير من الليل،  أزيز بخار الماء المتصاعد من "سماور" النحاس وهو يخترق ذرات البن الميتة لتحيا في رأس احدهم من جديد، رواده الذين يكتظ بهم المقهى اذا زاد المطر ويتسربون منه ويختفون اذا سطعت الشمس كأشباح السيّاب في "منزل الأقنان" وقد سطع فيه بعض الضياء حين يقول:

بهسهسة الرثاء فتفزع الأشباح تحسب أنه النور

سيُشرقُ، فهي تُمسك بالظلال وتهجرُ الساحه

إلى الغرف الدجية وهي توقظ ربة البيت

كل شي في المقهى مؤنس حتى الكتابة لها طعم مختلف مشبعٌ بدخان السجائر ومخلوط ببقايا المجاز العالق بِشِبَاك الذاكرة، لا يعدله بالانس الا الحديث المتسرب من شفتي عجوز يُحدّثُ صاحبَه بلطف ووشوشة مسموعة عن مغامراته الاخيرة مع النساء.

لذا وجدتْ نفسي الأُلفةَ في مقاهي بغداد القديمة لقد كنت افتقدها وأشتاق اليها الى درجة انني أستطيع أن اكتب بها قصيدة غزل، أو بضعة سطور أشرح فيها بعضاً من نفسي المبعثرة في زوايا المدن البعيدة وابحث فيها عما ضاع من سنين الغربة والبعد وأجد فيها الجرأة والمدد لمحاربة آفة الوحدة والانفراد.

كان أول مقهى اجلس فيه في بغداد هو مقهى "قهوة وكتاب" وهو مقهى لطيف وظريف كان لي فيه اول لقاء بأصدقائي، اذكر جيداً كيف تجمعنا في زاوية ضيقة منه كنا نجلس قبالة بعضنا قريبين معتدلي القامة كاننا نجلس في احد باصات بغداد الصغيرة، كانت جلسة طيبة ممتعة تحدثنا فيها كثيراً ولعلي كنت صاحب الحظ الأوفر يومها في الكلام حتى شعرت بالاشفاق على اصدقائي لكثرة ما تكلمت. 

لم اجلس في مقهى بغدادي منذ زمن طويل، لم اتحسس تخوتَها القديمة ولم أسمع صرير مفاصلها وأنين اخشابها التي انهكها طول الأمل وكثرة الشاكين اليها مما يلقونه خارجها على ارصفة الطرقات. 

كان مقهى الشابندر في شارع المتنبي مكتظاً بالناس حين وصلناه حتى لا تكاد تجد مكاناً في فنائه الواسع الكبير، ضاجّاً بأصوات ملاعق الشاي وهي تقرع جنبات "الاستكانات" لتذيب ما ترسب في قعرها من ذرات السكر، ممتلئاً بدخان كثيفٍ للسجائر حتى اني احسب لو تحول المقهى لبالونٍ لطار، وعلى جدرانه مئات الصور القديمة تشرح تاريخ بغداد القديم.

لم استطع المكوث فيه طويلاً فقد كانت الغاية ان التقي فيه ببعض الاصدقاء وما ان وصلوا تركناه مستكشفين ما حوله من امكنة وباحثين خارجه عن بعض الاوكسجين. 

أما مقهى الاسطورة الواقع على يمين الرشيد اذا جئته من باب المعظم فقد ملأت فضاءه أغاني الاسطورة "ام كلثوم" مثلما ملأت صورُها حيطانَه وجنباتِه، ولا اخفيكم انني كنت اشرب الشاي في لندن بلا سُكّر ولكني وجدت نفسي في مقهى الاسطورة استزيد الصانع منه، لعله طبع المقهى فبعض الاماكن تفرض عليك سياساتِها وقوانينَها، او لعله شيء من ممارسة الذوبان لمحاكاة طبع المدينة التي انت فيها فالأنسان بين القبول والطاعة والطبع والتطبع وكلها تكون بسكّر زيادة عندما تكون في بغداد.

لم اجلس بمقاهي الارصفة منذ زمن، لعل اخر مرة جلست فيها بمقهى على رصيف كان في دمشق أو ربما في القاهرة لست اذكر... 

حتى اخذني صديق لي الى مقهى مكون من صندوق حديدي عمودي كخزانة الملابس فيه كل ما يحتاجه صانع الشاي من عدة ولوازم لصنعه. وعلى شماله قطعُ هندسية مستطيلة من طوب البناء مُدت فوقها خشباتٌ طويله فرشت بقطع من السجاد اليدوي لم تكن تلك "المصطبات" الخشبية مريحة ولكني -والحق يقال- وجدت طعم الشاي فيها يحلق بي عالياً، لقد كان الاطيب حقاً وقد آمنت ان بعض الشاي كالشعر تجده منه على قارعة الطريق ما لا تجده على كنبات المقاهي المريحة.

اما مقهى رضا علون فهو حداثي الطبع ليس له صلة بالطابع البغدادي حتى انه يكاد يسلبك لحيظات التأمل فلا تستطيع ان تهرب بمزاجك مما حولك، احسست فيه بشيء من الجمود، ربما لالتزام رواده بسياسة المقهى التي فرضتها ادارته فما البث حين اجلس فيه حتى اجدني كالاخرين ابحث في شاشة تلفوني عن شي ضيعته، أحسست فور دخولي اليه اني فقدت للتو احساسي بالمقهى البغدادي حين وقفت انتظر دوري امام المحاسب عند المدخل لادفع ثمن القهوة واستلم الرقم الذي سيستَدلُ به النادلُ على طاولتي، غير اني لم استطع اخفاء تفاؤلي وانشراحي بالرقم ٧ حين استلمته من المحاسب وحملته بيدي عالياً كالسذّج وكأنني اريد اخبار الجميع انني صاحب الرقم ٧، كما لن استطيع نفي المتعة التي احسستها بتذوق قهوته السوداء. 

في المقاهي يا سادتي فتنة وجمال لا اجدها في غيرها من الاماكن، اشعر ان فيها الف طريدة لسهام المجاز اجملها تلك التي لم تصطدها الاقلام بعدُ فبقيت يقظةً حذرةً نافرةً كغزلان غابة ضيّرها كثرة القنص. وفي المقهى من الولع والشغف بحب المكان ما لا توفره صالات المطاعم الراقية والفنادق الفخمة، وكأن في المقاهي يا سادتي معنى الركون لحقيقة النفس واستكشافاً متأخراً لنفس الحقيقة.

0/أرسل تعليق

أحدث أقدم