أدباؤنا لا يُرزَقون

مشاهدات




رباح آل جعفر


‏كان صديقنا الشيخ الأفندي عبد العزيز القديفي من مشاهير باعة الكتب في مدخل سوق السراي ومن عجائبه. وكان من أكثر أدباء زمانه ظرفاً وفكاهة. وربما من أسوأهم حظاً على الإطلاق.. فقد جرّب حظه في أكثر من مهنة. من تصليح أقلام الحبر «الباندان» إلى بيع الأقلام المستعملة والمجلات القديمة.

‏وكافح القديفي في حياته بهمّة ونشاط طلباً للرزق. فكان قارئاً في مجالس العزاء، وداعية في مناسبات الرثاء، وأديباً يبشّر بالشعراء، ويقول إنه أنبل الفقراء. ثم يخسر في كلّ مهنة، ولا يكفّ عن محاربة طواحين الهواء مثل سرفانتس في «دون كيشوت».

‏وانتقل بمكتبته من السراي إلى المتنبي إلى التجليد مع كمال أبو مصطفى الورّاق الشهير ثم بيع الكتب على أرصفة الحيدر خانة. وعندما نسأله عن هذه التحولات. كان يحدثنا بقفشاته اللذيذة عن فريق من الجن سرقوا كتبه، فنبتسم لروايته ونضحك من حناجرنا.

‏أيّام زمان كان هناك المتنبي قبل أن تعترض طريقه أصايل «آل ضَبّة». وكانت الأمة تعشق القراءة بشغف، وتبحر في اللغة. قبل أن يصبح «العلمو نورن» ويغزو أسواقنا الأكاديمية والسياسية عصر «الدكاترة»!.

‏كم يساوي الأديب في العالم العربي؟ افتقر عباس محمود العقاد ووجده مصطفى أمين يبيع كتبه ليعيش. ومعروف الرصافي نزلت به دنياه بائعاً لسكائر «غازي» فبدأ يتهرّب من سداد ديونه لصاحب ذلك الحانوت الأعظمي: جمعة العطار.

‏ومرة سألني كاتبنا الكبير عزيز السيّد جاسم: من يدعم جيشاً من المثقفين بلا أحذية؟ لم أملك جواباً لكنني تذكرت حكاية شاعر النيل حافظ ابراهيم. كان يرتدي بدلة واحدة لا يغيّرها إلا بمعجزة، وكان يشحذ حذاءه من صديقه «حامد سرّي» حتى يزوره، فيبعث إليه قائلاً:

أحامدُ كيفَ تنساني وبيني

‏وبينكَ يا أخي صلةُ الجوارِ؟

‏وما لي جزمةٌ سوداءُ حتى

‏أوافيكم على قربِ المزارِ!.

‏وفي يوم سألت مؤرخ التراث البغدادي عبد الحميد العلوجي عن أعزّ مؤلفاته؟ أجابني ساخراً: «مؤلفات ابن الجوزي». لأنه سدّد عني دَيْن الحدّاد الذي صنع أربعة شبابيك في بيتي!. و»تاريخ الطب العراقي» لأن المجمع العلمي العراقي تعامل مع هذا الكتاب كما لو كان حذاء أبي القاسم الطنبوري في ليلة من ليالي شهرزاد!.

‏وكان الأديب يوسف نمر ذياب، كافكا المتشائم، سليط اللسان نالني بالنقد والهجوم فسامحته، برغم أنني كنت أصرف له المكافأة على مقالته الأسبوعية قبل النشر، وأكثر كلامه كان عن ظروفه القاسية في الحياة فتسمعه يدندن معزوفته الأسطورية: أنا لا أشكو من شيء في هذه الدنيا إلا من قلّة الأرزاق. على طريقة شيخنا جلال الحنفي طيّب الله ثراه. عندما تسأله عن أحواله يجيبك بالمثل البغدادي « من شؤم حظي تجيني النائبات أرداف»؟!.

‏يُقال عن الأدباء الفقراء: أدركتهم حرفة الأدب. وأعرف عن الشاعر قيس لفتة مراد أنه باع قلمه في سوق هرج ببغداد ليشتري بثمنه الدواء. كان قيس مستشفى من الأمراض. وقال يرثي قلمه متحسّراً:

‏أبيعكَ مرغماً ولأنتَ أدرى

‏بأنكَ لا تُباعُ ولستَ تُشرى

وليس أسوأ مثلاً وأتعس من صديقنا قيس إلا ما قاله أبو حيان التوحيدي في كتابه «الإمتاع والمؤانسة»: أنقذني من الفقر. اجبرني فإنني مكسور. أعطني فإنني لا أجد الغَداء والعَشاء.. أطعمني فقد قتلني الجوع!.

0/أرسل تعليق

أحدث أقدم