حسان الحديثي
ذكر الأصفهاني في أغانيه عن الكُمَيْت ابن زيد الاسدي أنه قال: لما قدم ذو الرمة أتيتُه وقلت له: إني قد قلت قصيدة عارضت بها قصيدتك:
مَا بَالُ عَيْنِكَ مِنْهَا الْمَاءُ يَنْسَكِبُ
كَـأَنَّـهُ مِنَ كُلىً مَفْرِيَّـةٍ سَرِبُ
ثم انشدته:
هل أنتَ عن طلبِ الإيفاعِ مُنقلِبُ
أم هلْ يُحَسِّنُ من ذي الشيبةِ اللعِبُ؟
وقــد رأيـنـا بـهـا حــوراً مُـنـعـمـةً
بيضـاً، تكامـلَ فـيـهـا الـدلّ والشنبُ
والإيفاع هو الشباب والفتوة والدلّ اي الدلال والشنب اي حسن المبسم وجمال الثغر والأسنان. حتى أنشدته إياها كلها،
فقال لي: ويحك! إنك لتقول قولًا ما يقدر إنسان أن يقول لك أصبت ولا أخطأت، وذلك أنك تصفُ الشيء فلا تجيء به، ولا تقع بعيدًا عنه.
قلت له -والكلام للكُميت-: أوَتدري لمَ ذلك؟
قال: لا
قلت: لأنك تصف شيئاً رأيتَه بعينك، وأنا أصف شيئًا وُصِفَ لي، وليستْ المعاينةُ كالوصف. ويعني انك -يا ذا الرمة- ابن بادية فتصف ما ترى وانا ابن مدينة فوصفتُ ما سمعتُ.
قال الكميت : فسكت ذو الرمة.
أقول: ان ما قاله الكميت يصلح ان يكون رؤيةً نقديةً حريةً بالتأمل والنظر لأنها حالة متكررة في كل العصور والأزمنة رآها الكميت ونراها اليوم....
ويروى أن الكميت كانت له جدتان أدركتا الجاهلية، فكانتا تصفان له البادية وأمورها، وتخبرانه بأخبار الناس في الجاهلية، فإذا شكَّ في شعر أو خبر عرضه عليهما فتخبرانه، فمن هناك كان علمه ودرايته. لأجل ذلك قال له ذو الرمة: أنك تصفُ الشيء فلا تجيء به، ولا تقع بعيدًا عنه.
تذكرتُ هذه القصة عندما عدت لقراءة بعض موشحات الحبوبي والتي اجتمعت في جسدها ثلاثة أرواح: روح الحبوبي المدنية في مدينة النجف، وروحه البلاغية لدراسته الفقه وعلوم الدين، ثم روحه البدوية لسفره مع والده الى نجد ومكوثه في حائل بضعة أعوام، حتى اختلطتْ لغتُه بين عظمة النَفَسِ القرآني والبلاغة النبوية ولسان نهج البلاغة، مع صفاء هواء الصحراء ورمالها وسماعه رغاء الابل ورؤيته عيون الماء وقطعان الظباء فجاءت لغته الشعرية خليطاً هائلَ الجمال يجمع بين التحضر في الاحساس والتَبدّي في اللغة، فيؤثر بالمعنى والدلالة من جانب، والسبك والقوة في البناء من جانب آخر، فلا تكاد تراه يضفي البلاغة على منظومِهِ حتى يجنحَ الى لغة البادية الجادة ثم يميل الى نعومة وترافة المدينة فتجيء صناعتُه قويةَ المفردة صلبةَ البناء، غير أنها غضة الطبع رقيقة الحاشية. وأذكر هنا مقطعاً من احدى أجمل موشحاته لتبيان وإيضاح ما ذكرتُه آنفاً والذي يقول فيها:
عُرُبٌ تختالُ في أمراطِها
تعقدُ الزنّـارَ من أوسـاطها
وتريكَ البرقَ من أقراطِها
كلما اهتزتْ لصبٍّ خضعا ... هَـزّهُ شوقٌ إليها وارتياحْ
وهـو لـو يعرفُـهـا لادَّرَعـا ... إنما للطعنِ يُهززنَ الرماحْ
والعُرُب جمع عَروب وهي المَرْأةِ المُتَحَببة إلعاشقة لزوْجِها، قال تعالى: "عُرُباً أتراباً"، والأمراط جمع مِرْط وهو كساءٌ تزيّن به النساء، أما الزُّنَّارُ فحزامٌ تشُدّه الفتاة على وسطها يعينها على العمل فيبدي محاسن عودِها ورشاقةَ قوامِها.
ولو نظرنا الى مفرداته لوجدنا ما عناه الكميت في وصفه لشعره أمام ذي الرمة غير أن الحبوبي عاين فوصف وليس كما قال الكميت آنفاً "سمع فوصف".
وانا أجزم أن الحبوبي رأى بعينه الأمراط والزنار والدرع فجاء بالمفردة التي توائم بين الشعر والشاعر من ناحية وتلائم بين الشعر وزمنه من ناحية أخرى، ولو قرأنا هذه المفردات في شعر أحد الحداثيين لأنكرناها عليه بل ولأفسدَ أدبَه ونُسِف شعرُه للاختلاف بين لفظه وحاله.
ولعل هذا هو أحد الأسرار وراء خلود بعض شعر النابغة وجرير ، وغالب شعر المتنبي وصفي الدين الحلي ذلك أن هؤلاء النفر من الشعراء انتهجوا لغةً واضحةً شذَّبوا ما شعث منها وأبعدوا الغريب عنها -قدر سماح الحال والزمن- فترانا ما نفتأ نقرأها فنفهمها ونطرب لها فنميل عن غيرها اليها ثم نحفظها ونسير بها وتسير بنا وكأنهم نظموا الشعر بلغة الدهرِ كلِّه أنّى قارئ قرأه وعيه وفهم معناه فشدَّه وأمالَه وأطرَبه. وهذا من النادر حيث اجتمع بُعْدُ النظرِ مع فهمِ الحالِ مع اصابةِ علمٍ ومعرفةٍ مع شيء من الحظِّ والتوفيق.
الماء ايها السادة يتحرى السهل من الأرض ليميل اليه ويسري فيه كذلك أسماع الناس وذائقاتهم تنتقي لطيفَ اللفظِ واضحَه مع عظيم المعنى لتقف في حضرته بحب وإجلال وقوفَ الرهبان في المحاريب والعامة أمام الملوك والعشاق بين يدي من يعشقون، وما يزال هذا الفن من الفنون جميلاً قريباً من النفوس ما انتهج به صاحبه سُبلَ الجمال يتلطّفُ به الينا تلطُّفَ الطفل الى صدر أمه ويسمو به سموَّ حَبَبِ الماء الى السطح، وإن هذه اللغة بحرٌ بعيدُ الشواطئ مظلمُ القاع فأما ما خفَّ من اللفظ ورق من المعنى فيطفو، وأما ما ثقل فهو باق في قاعه غائب في ظلماته لا نراه ولا يرانا....
إرسال تعليق