- استخدم الماجدي كم من المفردات الدالة وتناقل فيها بين أبياته
- ركز على المزج بين خطاب الغائب وصورة الحاضر للدلالة الرمزية
سعد الدغمان
خاطب خزعل الماجدي القارئ بصيغة النفي، عبر قصيدته "احزان السنة العراقية" أو كما يحلوا للبعض من النقاد تسميتها ب" شباط"، والتي أراد لها مطلعا مغايرا لما ألفناه عند شعراء كثر، فقد اعتدنا عند معظم الشعراء أن يسوقوا الوصف مطلعا لأعمالهم لشد القارئ ، أو ليستحوذ اهتمامه ، ويدفعه للإسترسال بالقراءة، أما النفي الذي اعتمده الماجدي فلربما أراد أن يثبت من خلاله مسحة الحزن التي طغت على اجواء القصيدة المشحونة بالإعتراض على ما كان من واقع مأساوي عاشه العراق بحقبة الظلام التي تسيطر على مساحة الوطن.
شباط الماجدي " صرخة" على الواقع السوداوي،الذي لفه الحزن فغلفه بالنفي ليجسد أبياتا أطرها ب (الوجداني) ، ولان الماجدي يجيد صنعة الشعر ، فقد جاء مدخل القصيدة مكتمل الصورة والعناصر، فلم يكتفي بالنفي، وانما استدركه بإتساع التعبير الدال على المعنى.
لا الشمس تضيء الأرضَ ولا القمر
لا بغداد واضحة المعالم.. ولا الطريق الذي أمامي
ولعدم اللبس على القارئ، أو جَر القصيدة لحالة من النمطية التي تبعد عنها سمة الإبداع جاء ب"الإستفهام" كيصيغة جاذبة ، بل هي من أكثر صيغ التشويق التي يستهوها القراء، كونها تنم عن ما بعدها مما يخبئه الكاتب أو الشاعر من معان في قلبه. وحسب قرائتي للأسلوب الذي يكتب به الماجدي ، وهو من المبدعين طبعا ، أراد الدكتور خزعل لقارئه ان يكون مفتوناً بمدخل القصيدة الذي حمله صيغا متنوعة تناقل فيها مابين النفي والأستفهام ، والتبرير ، ورسم صورة شعرية غاية في الدقة ، حملها كل الأجوبة التي تدور في ذهن القارئ ، والتي يجبر بها الماجدي قارئه الوقوف عندها في مدخل قصيدته ، بل على بعد من أعتابها.
وتلك صفة حقيقة لم اتخيلها إلا وانا أقرأ قصيدة الماجدي ( خزعل).
استبدل الشاعر كم من المفردات الدالة وتناقل فيها بين أبياته، وهذا بحد ذاته يحسب للماجدي، ذلك أن الكتابة بالدلالة ( تكريس المعنى) بعبارات مختلفة، يرسم صورا عدة لدى القارئ، كما يكرس تخيلات منوعة تدعم الصورة الشعرية التي يبني عليها الشاعر تصوراته أو يؤطر بها اركان قصيدته.
ماذا جرى؟
هل انطفأت عيوني؟
إذن أين عصاي أتوكأُ عليها؟
وأهشُّ بها طيور الظلام التي تهاجمني
ولماذا؟
ربما لجأ الدكتور الماجدي لإيراد شيئا من الموروث خلال أبياته بتضمينها قصص ( الحمامات) التي أربط هديلها بالحزن ، وتلك قصص الموروث القصصي الذي عايشناه جميعا، وتربينا على سرده ، وكان محببا للجميع، الماجدي استغل تلك الصفات الدالة على الحزن المتعمق في الوجدان، والمترسخ في الشخصية العربية، والعراقية خاصة ليأتي بنمط يحبه القارئ ويستهويه، ما ينعكس على القصيدة بشكل عام.
وفي نفس السياق ، دمج الماجدي المأثور الديني عبر مفردات ( القصص القرآني)، أو بالمعنى الأدق جسد الفكرة التي تضمنتها سورة من سور القرآن ليرسم عليها صورته التي ضمنها بعض من أبياته.
كم الألم الذي كتب به الماجدي قصيدته، استذكارا لولده طبع القصيدة بعبق يرقى إلى الإبداع، وقل أن نقرأ في وقتنا الحاضر مرثيات بهذا المعنى الذي حَمله خزعل الماجدي أبياته.
لماذا تغني الحماماتُ نشيداً حزيناً
لماذا تنوحُ؟
ومن ذا على الأفقِ أنطرهُ
ولدي!!
أم قميص مدمى!
أم البرقُ يطرقُ كوم الشتاء الطويل؟
استخدم الشاعر في خطابه الشعري المزج بين خطاب الغائب وصورة الحاضر، أي أنه جاء بمحاولة استحضار صورة الغائب وفق الحاضر ( الهزيع الأخير من الليل) ، دلالة رمزية باستخدام الوقت معيار لتحديد حالة الحضور الرمزي في الحدث الشعري عبر صيغ الاستفهام الضمني، نسج الماجدي حواراً من وحي خيال القصيدة وجهه للمخاطب، ( تحدث إلي)، ( وقل ياحبيبي)، مستفهما عن المكان ، وهنا شكل جوهر القصيدة أو الحبكة التي بنى عليها العمل برمته ( المكان) عبر الاستيضاح ب"أين" وهي اسم يستوضح به عن المكان، وفي خضم ذلك الإبداع الذي جاء به الماجدي ليتحفنا به، يركن للوصف في البيت الأخر ( أي ظلام)، إلى أخر البيت الذي يستفهم من خلاله عن استكمال ما وصف ( وأي خراب)، ليعطي للمتابع صورة مكتوبة عن وضع ما حل بالعراق عموماً وضع مزري يعيشه وسط ذلك الظلام الذي حل وعم كل شيء.
الاستفهام اللفظي الذي يعود الدكتور خزعل لإدراجه بعد الوصف، هو نمط تحليلي متقدم في العلاقة مابين الكلمة ومرادفاتها، أو مابين الصورة والصورة، فالبلاد التي تغني نشيد الحزن ، لابد وأن تكون صفتها رماد، ما كرسه الماجدي بقوله ( رماد على كتبي)، ليختم به المشهد الدال على تعابير الوصف والاستفهام.
فمن ذا؟
شبحٌ في دثارِ الهزيع الأخير من الليل
تحدَّث إليَّ وقل يا حبيبي
إلى أين قادوك؟
أيّ ظلامٍ زُرعتَ به وأي خراب؟
لماذا تغني البلادُ نشيداً حزيناً؟
لماذا تجفُّ؟
رمادٌ على هجره في يدي
رمادٌ على معطفي ولساني
رماد على كتبي.
دائما مايلف الخطاب الديني ، مسحة حزن تطغى على غالبية الخطاب، وتوظيف ذلك الخطاب ،أو أن الاقتباس من النص القرآني دائما مايأتي عليه من يكتب في الرثاء أو في الشعر الوجداني، والماجدي في نعيه هذا دخل من ذلك الباب ليوظف قصة يوسف بإسقاط ملهم لايخلوا من ابداع، ليأتي على تداخل الصور الوصفية التي جسدها التوصيف القرآني ، وليحيل ما جاء به في أبياته لصور ناطقة معبرة عن قصته في الرثاء، كما الإبداع الذي تضمنه القصة التي تناولت سيرة يوسف عليه السلام، ( مع فارق التشبيه) ما بين إبداع الخالق، وما يسجله المخلوق بفضل الخالق، فلا تشابه بين هذا وذاك.
نهايات الأبيات التي أخترناها من قصيدة طويلة للماجدي بناها على تراتيب الأسئلة، وتكرار الاستفهام، ومخاطبة الشواخص ( أصيح على الجب) ، وهي تعبير مجازي يعبر عن مدى الحزن الذي تأصل في قلب الشاعر ما دفعه لمخاطبة الجماد عن علم ويقين بعدم الجواب، لكنه الآسى الذي غلف مناخ القصيدة ، فكانت (وجدانية) بإمتياز، يحيطها الاستفهام والوصف للضرورة التي لابد أن تكون عليه الأبيات، وليجسد من خلالها الشاعر ابداعه واحكامه لأركان القصيدة التي جاءت مُحكمة الأركان ، عبر توظيف العناصر التي يحتاجها البناء الشعري بدقة وبشكل رائع.
أصيحُ على قاطعات الأيادي
ألم يك مروان يوسفكنّ الجميل؟
إذن أين ضاعَ؟
وأيّ الذئاب سبتهُ؟
أصيحُ على الجُب
كيف احتويتَ رصيعاً من الماسِ؟
كيف لثمتَ مفاتنهُ؟
أيداه مقيدتان!
هل يتقيدُ نبعٌ؟
وهل سنابلهُ انفرطت قبل حين؟
وهل من دفوف العذاب تكور في صيحةٍ: آه..
إذن أين صرختهُ؟
كي أحنّي يدي
أين قامته كي أردّ إلى العين نوراً؟
أينَ ورد يديه.. أين السماء؟
خزعل الماجدي استاذ وكاتب وشاعر، وباحث في الميثولوجيا والأديان القديمة والحضارات، كتب في النظرية الشعرية، وفي المسرح ، وله العديد من المؤلفات والإصدارات والدواوين ، ولد في كركوك 1951 وأكمل دراسته في بغداد، حصل على شهادة الدكتوراه في التاريخ القديم من معهد التاريخ العربي للدراسات العليا في بغداد عام 1996،كما حصل على الدكتوراه في فلسفة الأديان عام 2009. تنتمى أعماله الفكريّة إلى عدّة حقول معرفيّة منها علم الأديان وتاريخه وغيرها من أبواب الشعرو المعرفة العديدة.
إرسال تعليق