قلوب باسلة

مشاهدات



هيثم الزبيدي


كل المتطوعين ممن تقبلوا أن يصبحوا "فئران تجارب" للقاحات المقترحة لمواجهة عدوى كورونا أو أدوية علاج كوفيد – 19. هؤلاء شجعان من دون تحليق بطائرات أو صواريخ. يواجهون المجهول بثقة.

شجاعة استثنائية

لا أستطيع أن أرسم خطا فاصلا بين الشجاعة والمغامرة. هذا الرجل شجاع وهذا مغامر. المغامرة ربما فيها استخفاف بالخطر. الشجاعة إقدام بقبول وجود الخطر. لكن ما أستطيع الجزم فيه أن الشجعان تركوا أثرا في الحياة والتاريخ، بينما المغامرون أشبه بلاعبي السيرك الذين يبهرونك ثم يمضون.

هناك شجاعات استثنائية. بعض الرجال والنساء يقدمون على مخاطرة لم يسبقهم إليها أحد وهم يعرفون أن العواقب قد تكون وخيمة. لكنهم لا يترددون ويقدمون

خذ مثلا تشاك ييغر الذي رحل عن عالمنا بالأمس. يعتبرونه في الولايات المتحدة أسطورة الطيران. بطل في الحرب العالمية الثانية، أسقط طائرات ألمانية كثيرة وأسقطت طائرته لينجو ويعود للحرب. هذه بطولة من ضمن البطولات. لكنه احتاج إلى شجاعة من نوع مختلف حين طلب منه تجريب أول طائرة تخترق حاجز الصوت. كان هذا في أواخر الأربعينات، فلا كمبيوتر ولا محاكاة ولا تصميمات متقنة ومحكمة. جلس مع المهندسين وكان مستعدا للتحليق بطائرة صممت بهدف استكشاف القدرة على اختراق حاجز الصوت. كان كمن يحلق راكبا على رصاصة. حقق الإنجاز ودخل التاريخ. قرأت عنه وشاهدت وثائقيات عن مرحلة مجنونة من استكشاف الطيران وحدود ما يمكن للعلم والهندسة تحقيقه. ولم تبخل عليه هوليوود بفيلم.

بعد ذلك بسنوات جاء دور نيل أرمسترونغ أول من نزل على القمر. في واحدة من التجارب الأرضية، تعطل صاروخ من صواريخ المركبة التي تشبه تلك التي ستقلع من القمر. تمايلت المركبة ثم انحرفت، فقرر أن يضغط على جهاز قذف الباراشوت. انفجرت المركبة وصواريخها لأنها كانت على ارتفاع بسيط عن الأرض وكانت فرص نجاته قليلة. لملم الباراشوت وتمشى ناحية المهندسين. ثم بدأ يناقش فورا كيفية تجاوز المشكلة وسط ذهول الجميع. هذه أعصاب من فولاذ فعلا. أعصاب توصلك للقمر وتعود بك دون أن يرف لك جفن.

مشاريع الطيران والفضاء لها سمعة جذابة تسترعي اهتمام الإعلام والمؤرخين. لكن التاريخ مليء بالشجعان ممن حققوا الكثير في لحظة مفصلية كانت تعني الفارق.

نصل إلى لحظتنا الفارقة اليوم. كل هؤلاء المتطوعين ممن تقبلوا أن يصبحوا “فئران تجارب” للقاحات المقترحة لمواجهة عدوى كورونا أو أدوية علاج كوفيد – 19، المرض الذي يسببه الفايروس الماكر. هؤلاء شجعان من دون تحليق بطائرات أو صواريخ. يواجهون المجهول بثقة أن العلماء الذين يبتكرون الأمصال فعلوا ما في وسعهم للتوصل إلى لقاح لا يخلص البشرية من مرض فقط، بل ينقذ الاقتصاد والسياسة ويخرج النفوس من عزلتها. بعضهم يدخل التجربة محملا بأمراض أخرى، لكنهم قلوب باسلة لا تهاب.

كاتب من العراق مقيم في لندن

0/أرسل تعليق

أحدث أقدم