أوهام الأدباء بباب النساء

مشاهدات


علي السوداني

وهذا أمرٌ يكاد يتفوّقُ فيه أدباء القرى على أُدباء المدائن والحواضر المشعّة.
إنه حديث المقامرات النسائية وقصائد الحب والغزل الطويل، فما أن تلتئم ثلة أدباء حتى ينداح فوق مائدتهم كلام معجون بجحيمٍ من قُبلٍ لم تحدث، ومن عصرية عشق تحت شجرة لم تبايع من استظلَّ بها، وكان كلامهم يجري في حال سكروا بحروفهم الجميلة، أو بما تيسّر من منقوع العنب العزيز.
في ليلات حانويات كثيرات مبهجات ممتعات كنتها مع الشاعر عبد الوهاب البياتي، كان يحلو لقلبهِ الأخضر الكبير أن يبدأ حديثاً ساخراً عن شعراء قد خابت محاولاتهم وجهادهم من أجل الفوز بقلب فاتنة، فذهبوا مذهب صناعة الوهم اللذيذ، علَّ واحدهم يفزّ صبحية العيد، ليجد نفسه طائراً مرتدياً ثوب ومعطف دون جوان الشهير، لكنّ ذلك لم يقع وسينتهي الأمر بزيجة مباركة من ابنة العمّ أو الخال أو الجيران قبل سابعهم ببيتين.
وساعة يغوص الليل في أول الجب وخاصرة الكأس، سيكون البياتي الجميل قد أوقع نفسه بذات الفخّ، حيث سيستعيد عائشة حبيبته الافتراضية، ولن ينتهي حتى يصل إلى قصته النادرة وغير المسموعة كثيراً، وهي حبه الصامت لابنة سفير إيراني، وقد عصرَ ذاكرته المضببة فوجد أن اسمها هو فروزندة، فكتب فيها قصيدة أضافها متأخراً الى صفحات ديوانه ما قبل الأخير " البحر بعيد أسمعه يتنهد “.
في هذا الفصل الطيب، كنت وصحبي الصانعين سوراً حول مائدة القاص عبد الستار ناصر، قد أنصتْنا بعظيم شغف وود، لما كان يسرده علينا ستوري وهو وسيم الوسط الأدبي العراقي، من حكايات ليلٍ لا تنسى وليس بمقدور النهار محوها وسوف تصير لاحقاً مقامرات لذيذة برواية عنوانها على فراش الموز.
وفق نبوءة القياس الشائع والتذكر المتسلسل وربما العشوائي، لديّ أيضاً شاعر من أهل القرى الطيبة، رثّ الملبس مثقوب الجيب ركيك الحال والحيلة، كانت الأيام قد حطّت به على حانات وفودكا موسكو الشيوعية الجميلة، فكتب أجمل الشعر في نساء افتراضيات مصنوعات من خيال ووهمٍ نقيّ، لا حقيقية بينهنّ سوى الساقية كارنينا، مدفأة الحانة وعشق الجميع.
أما الشاعر عبد الرزاق عبد الواحد، الذي أدركتُهُ في عمّان وهو يخيّمُ قوياً صاحياً حيوياً بعتبة الثمانين، فمن عاداته أنه كان يعشق قراءة قصائده بصوته وأدائه المذهل، حتى لو كان مزروعاً في مطعم ينطر نضوج سمكة، ومن تلك الأشعار كان شعر الغزل الافتراضي حاضراً بقوة، وغير مكترثٍ لوجود السيدة الصامتة أبداً أُم خالد التي كان يعيب عليها ويغضب لأنها لا تحفظ سطراً واحداً من شعره حتى معلقته حولها.
من الطرائف واللطائف الكثيرة التي سمعتها منه، قال إنّ بدر شاكر السياب كان يحبه ويعتني به، ويقدمه ويعرفه على الأدباء في المقهى وفي أمكنة اخرى، بكلام أكبر من حجم الشاعر الذي ما زال غضاً يحبو عند أول عتبات القصيدة، ليكتشف أبو خالد متأخراً، أن سر حب السياب له كان بسبب عشق بدر للشاعرة لميعة عباس عمارة، وكأن الأمر يشبه قول الشاعر المنخل اليشكري بواقعه شهيرة قال:
أحبها وتحبني ويحب ناقتها بعيري!!

0/أرسل تعليق

أحدث أقدم