نعيش ظروف متسارعة شكلت بمجملها ظروف ضاغطة على الانسان لا يمكن معها الا مجاراة هذه السرعة المتقدمة على جميع الأصعدة في حياتنا ، في ظل هيمنة كبرى للتكنولوجيا منذ الثورة الصناعية وحتى القفزات النوعية في مجال الذكاء الاصطناعي ، وهو الامر الذي جعل الكاتب البريطاني (جيمي سسكيند) يتحدث عبر كتابه الموسوم «الجمهورية الرقمية: عن الحرية والديمقراطية في القرن الحادي والعشرين» اذ يطرح تعامل الحكومات مع شركات التكنولوجيا من ناحية التشريعات ، او تنظيم العمل في بلدانهم ، وينطلق من قول كارل ماركس "هناك شبح يطارد الديموقراطيات في العالم: شبح قوة التكنولوجيا" وعلى الصعيد ذاته يتطرق الفيلسوف الفرنسي من اصل جزائري بيير رابحي وجولييت دوكين بكتابهما المشترك بعنوان (البشر في مواجهة خطة الذكاء الاصطناعي) الصادر 2021 الى الذعر الذي بات يصيب الانسان جراء هذا الذكاء الاصطناعي ، دوكين اشارت الى ان الذكاء الاصطناعي يمكن ان يشكل كذلك تهديداً سياسيا ، من خلال تتبع سلوك المواطنين عبر نظام الائتمان الاجتماعي الذي انشاته الصين لكي تشجع مواطنيها على التصرف بشكل افضل ، وطرحت مفاهيم سيطرة الذكاء الاطصناعي من خلال مقولات ما بعد الإنسانية أو ما بعد الإنسان وفقاً للفيلسوفة فرانشيسكا فيراندو والفيلسوفة الايطالية المعاصرة (روزي بريدوتي) في كتابها الاخير ( ما بعد الانسان)، كل هذه النظريات جاءت متسقة مع التطورات التي يشهدها العالم وحلول الآلة مكان الانسان في العديد من تمظهرات هذه الحياة والمجتمعات وفي ظل هيمنة العولمة وسطوتها أصبحت الكون قرية صغيرة واحدة، وأصبحت كل تعاملاتنا اليومية عبر الالكترونيات وعبر مسارات التكنولوجيات الحديثة، فعلى مستوى القوانين فان بعض البلدان تدرس قوانين (السلامة عبر الانترنت ، قانون الذكاء الاصطناعي، قانون الخدمات الرقمية ، قانون الاسواق الرقمية) وكذلك وجود ما يسمى ( بالعقود الالكترونية) وهناك ما يسمى اليوم بالعملات الرقمية ، والاقتصاد الرقمي ، والتسويق الالكترونية الذي يعتمد في العديد من البلدان ، وأيضا الشهر العقاري والتسجيل فضلا عن موضوع تصديقات الوثائق وصحة صدورها الرقمية وكذا (البطاقة الذكية) (الحجوزات، الدفع الالكتروني، سحب الأموال وايداعها...وغيرها) والتحويل الرقمي للأموال (خدمات التحويل ، ويسترن يونيون وغيرها من خلال بطافات الهاتف الذكية والتحويل بالموبايل المحمول) ناهيك عن وجود (التصويت الالكتروني) في المفصل السياسي والانتخابي ، وما يسمى بالدبلوماسية الالكترونية التي مضت فيها بعض البلدان، وأيضا (فتح سفارات دبلوماسية افتراضية)، ناهيك عن شيوع مصطلح المواطنة الرقمية مؤخرا.الإعلانات هي الأخرى تحولت من طرقها النمطية التقليدية والورقية والضوئية الى إعلانات عبر الميديا ومواقع التواصل الاجتماعي (الإعلان الممول)، وممكن ان تشاهد الأفلام السينمائية والمباريات عبر الانترنت او (الموبايل) بدلاً من الذهاب الى الملاعب وصالات السينما ، الألعاب تحولت من طبيعتها في الشوارع والمتنزهات والملاهي الى (فضاءات الكترونية) تجمع مختلف الجنسيات ، واصبح هناك تطبيقات ( الرفاهية الرقمية) التعليم هو الاخر بات عبر (الصفوف الالكترونية ، والاجتماعات الفيديوية ) والأستاذ يقدم محاضراته عن بعد (التعليم الالكتروني) وكل مظاهر التواصل الاجتماعي أصبحت لا تتم عبر الزيارات الحضورية بل عبر (مكالمات، محادثات ،الواتساب والفايبر والماسنجر، وكوكل ميتنك، وغيرها) فضلاً عن اشكال القبح والملذات المتنوعة التي يبحث عنها الانسان (الجنس الالكتروني ، الإدمان الالكتروني ، السرقات الالكترونية، الابتزاز الالكتروني والإرهاب الالكتروني، وغيرها من الاشكال التي تمثل النزعات السلبية للفرد في المجتمع المعاصر) وكذلك سطوة الروبوت (خادم ، عامل، معالجة المتفجرات، يجري عمليات جراحية....الخ) ، على المستوى العلمي اصبح هناك إدارة الكترونية لكل مفاصل العمل وقطاعات الشركات واقسامها وهناك مثلا إدارة حقول النفط عبر التكنولوجيا عن بعد كما حصل خلال جائحة كورونا مؤخراً ، كما ان هناك بلدان اطلقت مشاريع ( مستقبلنا الرقمي) (الويب - البيانات - التسويق الرقمي) وحتى على مستوى المهن العلمية فان اجراء عمليات (هندسية بالتصاميم الرقمية ، وعمليات طبية بالأجهزة التكنولوجية) لهو تمظهر اخر لهذا الحضور التكنولوجي، بل أصبحت الآلة بديلاً للإنسان في العديد من المهن والمفاصل الحياتية ففي حقبة كورونا اصبح العديد من الأطباء يقدمون استشارات رقمية من العيادات الالكترونية والدفع يكون عبر البطاقة او تطبيقات الدفع الأخرى ، وبعضهم قدمها بالمجان من منحى انساني بالتأكيد ، بل بعض الدولة انشات (غرف عمليات رقمية او عمليات جراحية عبر التطبيقات الرقمية) اما الأسواق التقليدية فهي الأخرى تحولت لأسواق كونية كبرى (الامازون ، علي بابا، طماطة وغيرها العشرات) بل حتى في الفن ( الرسم الرقمي عبر الحاسوب ، حضور الروبوت بوصفه ممثلاً مسرحياً في العديد من التجارب العالمية ، الات الموسيقى الاتوماتيكية التي تعتمد على إحساس الآلة بدلا من إحساس الفنان) والادب الرقمي والكتاب الالكتروني وصيغه الرقمية المتداولة بكثرة وبتفاعلية كبرى ،والاعلام الالكتروني والصحافة الالكترونية كل هذه المظاهر وغيرها العشرات تولد أسئلة مرعبة هل نحن ماضون الى جمهورية رقمية بدلاً من الجمهوريات الواقعية ، في ظل تحول كل تعاملاتنا ومعاملاتنا الى الفضاء الرقمي ، ففي زمن كورونا عاش الناس اكثر من عاميين بعزلة تامة معتمدين على هذه الرقمية ، فهل تفلح بالهيمنة على الانسان وتكون البديل للجمهوريات التقليدية ، هل سيكون العالم جمهورية رقمية واحدة تدار بالموبايل والحاسوب وبقية أجهزة الذكاء الاصطناعي ، لذا حث رائد اعمال التكنولوجيا السيد ايلون ماسك حكام الولايات المتحدة الامريكية بضرورة تنظيم مجال الذكاء الاصطناعي قبل فوات الاوان ، واكد بان الذكاء الاصطناعي بات يشكل تهديدا حقيقياً وجوديا على البشر!! كما ان البروفيسور في علم الاجتماع والاتصال (مارشال ماكلوهان) يعتقد أن الوسائل الإلكترونية ساعدت على انكماش الكرة الأرضية من حيث الزمان والمكان وسميت بالقرية العالمية والتي سميت لاحقًا بـ(عصر القلق) لأن ثورة الاتصال الإلكتروني أجبرت الأفراد على الانغماس بهذا العالم والالتزام بالمشاركة به. فهل فات الأوان لهيمنة الآلة على الانسان ووجوده ام لازال الوقت مبكراً لإعادة المركزية للإنسان؟
هل سنتحول الى كون رقمي وجمهوريات رقمية؟
مشاهدات
إرسال تعليق