جني حلب

مشاهدات

 




فائزة محمد علي فدعم

للماضي البعيد ذكريات جميلة وطعمها لذيذ وخالد في ذاكرتي وذكرياتي مع مدينتي بعقوبة وخاصة حين يأتي الربيع مبكرا والغيوم البيضاء التي تشبه القطن تتراكم في السماء . ينزل احيانا رذاذا من القطرات وفرحتي كبيرة حين تُطرق الباب صباحا واشاهد اقراني ورفيقات عمري فنذهب سوية الى الشارع المقابل لدارنا وننتظر هطول الامطار التي تسعدنا . وفي المنطقة المحيطة بنا يمر اصحاب العربات والباعة المتجولين الذين يعلنون عن بضاعتهم بصوت عالي ومنها اقراص النعناع وعلك الميوة وابو السهم والشامية الحمراء التي تُشبهُ كرات صغيرة وكذلك (تكي الشام) وبالونات صغيرة ملونة ( النفاخات ) فننطلق نحوها ونحن فرحين ونختار مالذ وطاب بما يتناسب مع مالدينا من نقود وبعدها نجري ونحن نصرخ ونضحك ونشكل دائرة ممسكين بايدي بعضنا البعض واصغرنا سنا كانت تقف في الوسط وتدور عكس اتجاهنا ونحن نقلب الفساتين على رؤوسنا وتبقى بطانتها تحمينا من البرد وعندها نغني (مطر مطر عاصي بلل شعر راسي . راسي بالمدينة ناكل حگة تينه ) في ذلك الزمن كانت مقاييس الاوزان عند الباعة هي ( الرطل والجارك والحگه والاوقية والست دراهم ) نستمر بالغناء والدوران حتى ياخذ منا التعب مأخذه فنجلس على عتبة الباب ونحن ننظر الى السماء . كنا نخاف من ضوء البرق وصوت الرعد ومع هذا نصر على البقاء خارج البيت وعيوننا تتابعه وعندما يومض نغمضها ونضع اصابعنا في اذاننا من شدة الصوت ثم تسعدنا رؤية ( القوس قزح ) ونبدأ بالتسلل الى بيوتنا ونحن نشعر بالجوع والبرد .

صادف يوما وانا اسير مع والدي قرب مدرسة الزهراء الابتدائية للبنات فتواردت الذكريات فنظر ابي الي مبتسما ودون شعور مني ضحكت وتواردت الذكريات عن االخميس من كل اسبوع لان فيه تقص الاظافر وتكوى الصدرية والياقة البيضاء والمنديل في جيوبنا ويمشط الشعر وتلمع الاحذية ونصبح باحسن هندام لنقف ونحن في اتم استعداد لرفع العلم والتفتيش الذي تجريه مُرشدة الصف وخلفها المراقبة والويل الويل الويل لمن في شعرها (القمل والصيبان ) فترسل الى البيت ليغسل شعرها بالنفط الابيض ويجلسونها تحت الشمس وتتكرر هذه المراسيم كل اسبوع ومر امام عيني ذلك اليوم الذي استدعتني فيه مديرة المدرسة وسلمتني ورقة فيها قصيدة للشاعر احمد شوقي وانا حينها كنت صغيرة لااعرف ماهي مناسبة القائها ولماذا كتبها الشاعر فقط اخبرتني وهي تبتسم وتتودد الي وقالت انك فتاة جريئة (سباعية ) وانت گدها اقرئيها في الخميس القادم .
وعند عودتي الى البيت اخبرت ابي وامي فعم الفرح والسرور في العائلة باكملها واخبرني الوالد باننا سنذهب الى بغداد قريبا ونشتري احتياجاتك لهذا الحفل الخطابي وخلال هذا الاسبوع كنت مزهوة بنفسي متذكرة مايمكن شراءة ليبهر التلميذات اجمع وفي الحال قام ابن خالي لروحه الرحمة بتدريبي على اسلوب القاء الشعر وطريقته وكنت استجيب للتدريب بشكل جيد وتعودت على القاءه حتى حان موعد السفر الى بغداد حيث الاسواق الكبيرة والشهيرة فاشترى لي والدي صدريةجديدة وجوارب بيضاء حد الركبة واشتريت بعدها حذاء رياضي ابيض من محلات ( زبلوق ) الشهيرة وحذاء انيق من محلات باتا المعروفة انذاك ولها سمعة طيبة وشرائط بيضاء لاصنع جديلتان كانت تسمى وقتها تسريحة العلاگه وكانت كل واحدة تظفر على حده وتعلق في اعلى جانبي الراس واشتريت جاكيت قصير يسمى (بليرة ) مخصص لارتداءه في فصل الربيع وشاهدت محلا فيه مرايا وزجاجات وعلب للزينة وقد جلب انتباهي قنينة عطر فرنسي اخآذ اسمه ( پومبيا) والى جانبه بودرة في علبة جذابه تسمى الان (بكج ) وكان للعطر شهرة انذاك . واصلنا بعدها السير في شارع الرشيد الجميل والانيق ووالدي يمسك المشتريات بيد وفي الاخرى يقبض على يدي لكي لااذهب بعيدا .
ونحن نسير استوقفني بائع الفول السوداني برائحته التي تثير الشهية وكان ابناء السودان مشهورين بهذه المهنة وامام كل منهم مسند حديدي طويل وسطه قدر يخرج من فوهته دخان متقطع بمشهد يأخذ الالباب ويرسم الفرحة على الوجوه فتوجه والدي واشترى لي بعشرة فلوس وكان موضوعا في ورقة من دفتر قديم بشكل مخروطي وتفاجأت بانه كان ساخنا جدا فلم استطع امساكه وذهبت بعيدا واضطررنا الى الجلوس على دكة صغيرة منتظرين ان تخف حرارته وعندما اتممت اكله توجهنا مسرعين الى كراج بغداد بعقوبة القديم وفي السيارة احسست بالارهاق وانا بين نائمة وصاحية من شدة التعب والنعاس الذي اخذ مني مأخذه وكان وصولنا البيت عند غروب الشمس فاحتضنت المشتريات محاولة مشاهدتها ثانية لكن النوم غلبني واخذتني غفوة عميقة وعند الصباح نهضت من سريري وانا في قمة النشاط والسعادة فهذا هو اليوم الموعود وبدأت تراودني الاحلام بأني سأكون مراقبة للصف او من تجلب الطباشير من الفرّاش الى المعلمة او احصل على مداعبة المديرة والمعلمات ومن الاهل والجيران . كلها كانت احلام وانا منتشية وكذلك سأكون مفخرة ينظرون الي وانا الطالبة المميزة فاسرعت بأرتداء ملابسي الجديدة لابدأ بتناول طعام الفطور وهو عبارة عن (طاوة فيها زبد وفوقه دبس وفوقه بيضه طگ) وعندها طُرقت الباب وبدون استئذان دخل صديقاتي وهن فرحات بما شاهدن من ملابس ورائحة العطر التي تفوح مني فخرجنا جميعا في طريقنا المعتاد الى المدرسة ومررنا بنفس الشارع الذي فيه الجامع والمقاهي على جانبيه والناس كل مشغول بتناول فطوره من كبة او كباب عروگ او لبلبي حار او هريسة ...
وصلت الى القنطرة التي تؤدي الى دربونة السراي مقابل مصرف الرافدين حاليا وهنا انتابني شعور غريب لااعرف ماهو فبدأت اسير ببطئ وكنت انظر باعجاب الى اشجار الكالبتوس الباسقة والمتشابكة على ضفتي نهر خريسان فذهبت الى مكتبة الامين لصاحبها االسيد طه السامرائي والد السيد شفيق و صدّيق وامين ولا تزال علاقتي مستمرة بهذه العائلة حتى الان ومكانها فرن صمون الخشالي الان وفجأة اخذتني الحماسة وبدأت اتبختر في مشيتي كأني ملكة حتى وصلنا الى المدرسة ومع دقات الجرس احمرت وجنتاي واصطفت الطالبات في الساحة وعم صمت قصير مرعب بالنسبة لي عندها تقدمت المديرة والمعلمات ووقفن في المكان المخصص لهن حيث موعد رفعة العلم وقراءة الاناشيد وانا انتظر على احر من الجمر وجاء دوري لالقاء الشعر فوقفت بكل شموخ ورفعت رأسي متباهية امام الطالبات لان المديرة اختارتني من دون الجميع وساد السكون واتجهت الابصار نحوي فتقدمت الى وسط الساحة بعد ذكر اسمي وبدات بالقاء القصيدة وكانت البداية جيدة ورائعة فأخذني الغرور وعزة النفس حتى وصلت الى السطر الذي اوله :
رماك بطيشه ورما فرنسا
اخو حرب به صلف وحمق

بدأت القي الشعر بعجلة فاختلط الامر علي وصعد الدم في راسي ( وبدلا من قول رماك بطيشه
قلت رماك بطشته ) والطشت يستعمل لغسل الملابس فتغير معنى القصيدة فضجت المدرسة كلها بالضحك وهنا احسست بالالم والحزن مصحوبا بالبكاء ولم استطع بعدها اكمالها فجاءت المديرة فاحتضنتني وطيبت خاطري وقالت مرشدة الصف بصوت مرتفع لماذا الاستعجال يا ابنتي وقبلتني وشكرتني وهي مبتسمة بوجهي وقالت كانت البداية ممتازة ولا يهمك الامر في المرة القادمة ستكونين افضل وانقضى ذلك اليوم الحزين الذي لن انساه طوال عمري وعند انتهاء الدوام عدت الى البيت مكسورة الخاطر وانا لااعرف وجهتي من شدة الخجل وعند دخولي كان كل من في البيت على علم بما حدث لي فواساني الاهل لكنني قلت لهم باني لن اذهب للمدرسة قط وعاودت البكاء ونحن في هذه الواقعة الاليمة وفجأة طرقت الباب ودخلت جارتنا وخلفها ابنتها منى تتقافز وهي فرحة ونظرت الي ورمتني بنظرات غريبة فبدأت البكاء ومنى تواصل الضحك واشتد الضيق على نفسي فنهرتها امها التي تودني وتحبني كثيرا وقالت لابنتها مثل لم يفارق ذاكرتي حتى الان مرددة كلماته بنغم خاص وهي تنظر بغضب الى ابنتها ( چلب وجني حلب ) المقولة يقصد بالچلب (الكلب المسعور ) اما كلمة جني حلب لم افهمها لحد الان .
هل ان جني حلب اوكح من جني بعقوبة ام ماذا؟

0/أرسل تعليق

أحدث أقدم