مصباح "ديوجين" العراقي

مشاهدات



عبدالهادي السعيدي


في أديم ِالنهارِ بينما الشمسُ تضرِبُ أطنابَها أرجاءَ مدينةِ أثينا اليونانية القديمة ، يتسكعُ رجلٌ عجوزٌ بأسماله الباليةِ في طرقاتها و أزقّتها الضيقةِ حاملاً بيده مصباحاً منيراً تتفتحُ بنوره مُآقي النائمينَ التي أثقلها الكَرَى و يستفيقُ الناس على يومٍ جديدٍ و أملٍ جديد.

دهشةُ الورى كانت أشدُ قوةً من نورِ الشمسِ المشرق في نوافذِ المنازلِ و شبابيكِ المحلاتِ ومقاهي الحي و هم يشاهدون ذلك الرجلُ العجوزُ حاملاً بيده مصباحه المتوهج فيسألونه : ماذا تصنعُ بهذا المصباحِ في وضحِ النهار ؟ فيجيبهم : أفتش عن إنسانٍ نزيه !!

في القرنِ الثالثِ قبلَ الميلادِ كان أحدُ تلامذةِ سقراط النجباءَ الفيلسوفُ اليوناني "ديوجين" أو "ديوجانيس" يفتشُ عن النزاهةِ و الشرفِ في إنسانٍ  بعد أن شابَ يقينَه اليأسُ في إيجادِ ذلك الإنسانِ و أخذ يجوبُ الشوارعَ ليلَ نهار بحثاً عن الحقيقةِ والحكمةِ والسعادةِ حتى صدفَ عن الدنيا و زَهِدَ فيها واتخذَ من برميلٍ مُلقى على قارعةِ الطريقِ مسكناً له ثم هتفَ بالناسِ في رباطةِ جأشٍ : 

لا أبرحُ هذا البرميلَ حتى أجدَ الحقيقة !!

تمثّلتْ فلسفتُه في الحياةِ في توعيةِ الناسِ و حثّهم على تغيير أنفسهم و واقعهم إن كانا لا يحققان لهم السعادةَ ، فالسعادةُ كما يراها ديوجين تكمنُ في ارتداءِ جلبابِ الفضيلةِ و العوم ِ في بحرِ المعرفةِ والقدرةِ على التخلّي عن العاداتِ و التقاليدِ التي تُبطِلُ العقلَ و تصيّرُ الإنسانَ الى دُميةٍ بيد الكهنةِ و رجالِ الدينِ والسياسةِ فكان يستهجنُ تقديمَ القرابينِ الى الآلهة و يُزري على المتملّقينَ للسلطانِ سعياً وراءَ المالِ والجاهِ والسلطةِ و يحتقرُ الذين يؤمنونَ بخرافاتِ التنجيمِ و ما ينطوي عليه عالمُ الكواكبِ فيقولُ لهم : 

هل تدركونَ الأرضَ التي تطؤها أقدامُكم حتى تدركوا ما في السماء .. ويحكم !!

و في يومٍ ربيعيٍ أبلج ، التقاهُ القائدُ الكبير الإسكندر المقدوني عندما ضمّ مدينة أثينا تحت لواءه وتوجّه له بالسؤال :

هل لكَ من حاجةٍ أقضيها لكَ؟ فأجابه ديوجين : لديّ مطلبٌ واحدٌ ! فأجابه الإسكندر : تفضل هاتِ ما عندك . فقال له ديوجين : لقد حجبتَ عني نور الشمس بوقوفك أمامي ، أرجو أن تتنحى قليلاً !! فضحِكَ الإسكندرُ و قالَ له : لو لم أكن الإسكندر لكنتُ ديوجين !!

بعد يأسٍ وإحباطٍ شديدين حَبَسَ ديوجين نفسَه داخلَ برميلهِ حتى وافته المنيةُ لأنه رأى موتَه أهونُ من أن يعيشَ حياةً خاليةً من الفضيلة والنزاهةِ والشرف .. مات ذلك الرجلُ التسعينيُ العجوزُ منذ الآف السنينَ و تركَ لنا مصباحه المنيرُ ، مصباحَ الباحثينَ عن الحقيقةِ والساعينَ في طريقِ الفضيلة… فالحقيقة ُوالفضيلةُ لا تغيبانِ و قيمُ النزاهةِ والشرفِ لا تفنَيانِ ولابد لمصباحِ ديوجين أن يظلّ متوهجاً تحرِقُ ألسِنةُ لَهَبِه كل مجرمٍ و فاسد كما لابد لنورهِ أن يسعى بين أيادي حَمَلَتِه من طلابِ الحقِ و الكرامةِ مهما تقادمتِ العصور والأزمنة ، ولابد لكل شعبٍ ثائر أن يسعى لتحقيقِ أسبابِ السعادةِ والتخلّى عن كلِّ موروثٍ عقيمٍ يميتُ قلبه و عقله !

تمهّلوا من فضلكم يا سادة ؛ أكادُ أسمعُ هاتفاً من بعيدٍ يناديني ، أو لعلّي أستقبلُ مكالمةً هاتفيةً عاجلة من فضاءٍ سحيق !!

من المتصل ؟ يا إلهي ، إنه الفيلسوف ديوجين …

أهلاً ديوجين تفضل …

ديوجين : أنا أتصلُ بكَ من العراق الآن ، كم مصباحاً تحتاجونَ أيها العراقيون؟ أو ربما اكتفيتم ب "مصابيح الهدى" التي لديكم … أرسلتُ لكم "ثمانيةَ عشر مصباحاً" على سبيل التجربة .. هل نَفَعَت معكم؟ 

أم أنتم بحاجةٍ الى ثمانيةَ عشر أخرى؟

ألوو … ألوو… ألوو 

يبدو أن التيارَ الكهربائي انقطعَ لدى ديوجين ، لعلّه يُشعِلُ مصباحَه الآن ويعاودُ الإتصال بي تارةً أخرى !!!

0/أرسل تعليق

أحدث أقدم