هتلر وموسوليني في بعقوبة

مشاهدات



فائزة محمد علي فدعم 



ان الزمان الان غير ما كان بالأمس . الذهاب الى المدرسة كان امرا مُقدسا . نذهب وكلنا همة ونشاط بحُلة نظيفة تجذب الانظار . كذلك يسود بيننا سمو الاخلاق ولايعرف احد منا معنى الغني أو الفقير لأننا اخوات وصديقات في ذلك الزمن الجميل وكانت وزارة المعارف ( التربية حاليا ) توزع على الطالبات ملابس المعونة الشتوية ( الصداري ) وتشمل الفتيات فقيرات الحال فتقوم مديرة المدرسة ( الست نعيمة الخشالي رحمها الله ) بالمرور على الصفوف وكل طالبة متعففة ترفع يدها لتسجيل اسمها وبدون تخطيط او تفكير رفعت يدي معهم رغم اني لا افهم ماذا يجري بالضبط . فنظر إليَّ الطالبات والمُعلمات باستغراب وتعجب وكذلك المديرة التي اقتربت مني وهمست في اذني ( فائزة انت غير مشمولة ) فجلست على الرحلة وانا في قمة الخجل والحسرة وقضيت ذلك اليوم حزينة ولم اعرف النوم وفي اليوم الثاني وزع القماش الاسود اللماع الذي يسمى (القمندور) وهو حار صيفا وبارد شتاءا . مع ذلك بكيت لأني لم استلم كالأخريات وعدت الى البيت وانا في قمة الانزعاج والدموع تكاد تنهمر من عيوني والعائلة تنظر الي وفي وجوههم علامات التعجب لان خبر مطالبتي بالمعونة الشتوية كان قد انتشر في بعقوبة ولكن الوالد الحنون الذي قدر مشاعري اخذني الى السوق مرورا من دربونة الست (مومنيا ) والتي كان يوجد فيها عيادة الدكتور اسكندر رومان والى جانبه محل البقال فاضل دروش وصاحب المقهى السيد منصور الزيدي وبجوارها كانت امرأة يهودية تفترش الارض على ( گونية ام القلم الاحمر ) اسمها (سمحة ) امامها ماكنة تديرها باليد لتخيط بها ملابس الرجال من القرى والارياف وفي نفس المنطقة البقال (عباس گُرجي ) ابو زهوري الذي كان لديه ابنة وحيدة مدللة . 


اجلسني والدي على طرف احد المقاعد قرب الخياطة واوصاها بي خيرا وتوغل داخل السوق وعاد بعد وقت قصير وبيده كيس اسمر وباليد الاخرى (كعب الغزال) حلويات ذلك الزمان . كانت لذيذة جدا . وفي اليوم التالي عند ذهابي الى المدرسة ارسلت المديرة في طلبي فذهبت واذا بها تفاجئني بمنحي قطعة من القماش .


قالت : وهي مبتسمة والمعلمات ينظرنَّ اليَّ بعيون المحبة لقد نسيت ان اعطيك كالأخريات  . اخذته وانا فرحة جدا ولم افهم ماذا يدور حولي والعائلة كانت اسعد مني لأنها نفذت رغبتي رغم اني كنت ارتدي صدرية في غاية الروعة تحلم بارتدائها البنات . عدت الى البيت وانا فرحة جدا وذهبت في عصر ذلك اليوم الى سمحة وقامت بخياطتها وعندما كبرت عرفت ان العملية كانت من تدبير الاهل وان والدتي ذهبت سرا الى المدرسة واعطتها للمديرة لأنها كانت من معارفنا وعند عودتي وانا ارتديها بقيت لمدة يومين لم اخلعها من شدة فرحتي بها . في اليوم الثالث كنا نسير في الدربونة خلف جامع الشابندر حيث كان يباع فيها اكياس الفحم . يسكن في نهايتها التربوي الاستاذ خليل هيدي ( ابو رياض ) وزوجته الطيبة الست (بشة) وكان في نفس الدربونة يسكن رجل له ولدان يتشاجران دائما حتى مع بعضهم البعض ان لم يجدوا من يضربوه وجميع المحلات والمنطقة تشكو منهم ويُسيئون الى اطفال المحلة الصغار ويضربونهم ويسرقون مافي ايديهم . والغريب انهم يضحكون عند بكاء الاطفال ولذلك اطلق عليهم والدي الذي كان رحيما بالصغار الا هؤلاء لقب ( هتلر وموسوليني ) انتشر الاسم وفعلا كانوا كأنهم قطعة من ( جهنم )


 صادف وانا مرتدية ملابسي يوما عند عودتي من المدرسة وعبوري قنطرة الشابندر ان أراهم وبيد كل منهما عصا مغمسة في الطين . وقاموا برميها على الصدرية فذهبت باكية الى البيت وهما يتضاحكان . بعد ايام جلسنا انا وصديقاتي عند عتبة الدار ورأينا الولدان في الضفة الاخرى ينظران الينا والشرر يتطاير من اعينهم ولكنهم خائفون من عبور القنطرة لان فيها شباب المحلة الطيبين . يقفون متكئين على سياجها للتسلية وتجاذب اطراف الحديث وهم اصحاب غيرة وشهامة . والباعة المتجولين المتواجدين في ذلك الوقت يمرون وينادون ويُروجونَ كلٌ على بضاعته (بادم او علوجه او سمسمية او ازبري او شامية ) وعند مغادرة الشباب الى مكان اخر انتهز هتلر وموسوليني الفرصة وعبرا مباشرة وبيد كل واحد منهم خيط مربوط بطرفه اما جرادة او ضفدعه او فأر ميت وقاموا برميها على الفتيات الصغيرات اللواتي كنَّ يهربن باكيات وعلى هذا المِنوال لم يسلم احد من شرهم . 


عاتب الجيران اهلهم لكن دون فائدة ترجى ففكرنا وصديقاتي الاربعة بحيلة لطردهم من المنطقة . كان يسكن في خان دربونة (العروسة ) عامل يعُد الطعام للموقوفين في مركز شرطة بعقوبة وهو مفتول العضلات . خجولا مُؤدبا لدية شارب يقف عليه الصقر وكله صحة وعافية يربط حماره قرب بستان السيد احمد البندر خال والدي والجيران يقومون بإعطائه ما تبقى من الطعام او الخبز واحيانا الجت والحشيش . في احدى المرات بينما انا وصديقاتي نلعب في الشارع قبل الغروب جاء ليربطه ويتركه ويذهب الى اليوم الثاني وصادف ذلك مرور احد الشباب الكبار الذي يُطلق عليه في ذلك الوقت لقب الشقاوة فقلت له وانا مُمسكة بدرهم وبرجاء واستحياء : عمو اعطيك الدرهم وافتح لنا رباط الحمار وقبل ان يستلم الدرهم تقدمت صديقتي اليه وبيدها رغيف من الخبز عليه قليلا من الدهن الحر وفوقه سكر فنظر الينا ثم اخذ الدرهم والرغيف وفكَّ رباطهُ وذهب في حال سبيله وذلك عند الغروب والمارة كانوا قٌله فاقتدناه عبر دربونة الحاج شكر ابو الورد وبيت السيد فرهود ودربونة السيد محمود العيسى وضربته صديقتي ( بَدرية ) فركض وعبر مركز الشرطة والحمّّام باتجاه البساتين والتي اقصدها ألان موقعها ( اسماك دجلة ) واختفى بين الاشجار . حلَّ الظلام وعدنا الى البيت٠ 


عند الصباح جاء الرجل ولم يجد حماره فقال له الاطفال حسب تعليماتنا ان هتلر وموسوليني قاموا بفتح الحبل فهرب فتألم ووقف يشكو حاله وفي تلك اللحظة جاء هتلر وموسوليني ليقوموا بنفس الفعاليات فكان لهم بالمرصاد وبدون كلام امسك كل واحد من رقبته واشبعهما ضربا . 


منذ ذلك اليوم لم نراهما ابدا  ...

0/أرسل تعليق

أحدث أقدم