" ابونا" ايها العراق

مشاهدات




حسان الحديثي


كان العرب يُكنّون كل شي، كل شي... 

فيكنون الملموس كالماء بابي نافع،  ويكنون المحسوس كالجوع بأبي مالك وكذا العجلة يكنونها بأم الندامة وهكذا.... 

ومن الكنى لغير المحسوس من الاشياء ما اطلقوا على الدهر وكنيتُه "ابو الورى".

 وتلك فكرة قديمة جداً سبقت الأديان وهي أقرب الى التسمية الفلسفية منها للواقعية وتقوم على مفهوم؛ ان الدهر ثابتٌ والناس متغيرون فكأنه صار لهم اباً وهم له أبناء. 

وقد ترددت هذه الفكرة في بال الشعراء وتناوبوا على تضمينها وتباروا في ابداء غرائبها، من ذلك قول ابي تمام حين افترض اننا ابناء الدهر وأبونا شيخٌ هرمٌ لطول العهد به فقال مادحاً لبعضهم: 

مجدٌ رعى تلعاتِ المجدِ وهو فتىً

                       حتى أتى الدهرُ يمشي مشية الهَرِم

والتلعات هي الارض المتعرجة صعودا وهبوطاً، وقال أيضا: 

واذا جفاكَ الدهرُ -وهو ابو الورى-

                              يوماً فلا تعتبْ على اولادهِ

وقد اخذ الحريري هذه الفكرة في مقاماته فأعاد صياغتها من جديد بحُسْنٍ وجمال فجاءت ذكيةً لامعةً فقال:

ولمّا تَعامى الدّهرُ وهْوَ أبو الوَرى

                         عـنِ الـرُشْدِ فـي أنحـائِـهِ ومقاصِـدِهْ

تعامَيتُ حتى قيلَ إني أخو عَمًى

                         ولا غَرْوَ أن يحذو الفتى حَذوَ والِدِهْ

ولا غروَ اي لا عجب ولا غرابة، غير ان ابا الطيب المتنبي مختلف في الرؤيا والشعر كعادته وفي الكناية والمعنى أيضاً لاجل ذلك أسهب قليلا وتلطَّفَ للمعنى تلطُّفَ العارف فقال: 

سُبحانَ خالِقِ نَفسي كَيفَ لَذَّتُها

                              فيما النُفوسُ تَراهُ غايَةَ الأَلَمِ

الدَهرُ يَعجَبُ مِن حَمْلي نَوائِبَهُ

                       وَصَبرِ جِسمي عَلى أَحداثِهِ الحُطُمِ

وَقتٌ يَضيعُ وَعُمرٌ لَيتَ مُدَّتَهُ

                           في غَيرِ أُمَّتِهِ مِـن سـالِفِ الأُمَمِ

أَتى الزَمانَ بَنوهُ في شَبيبَتِهِ

                               فَسَـرَّهُـم، وَأَتَيناهُ عَلى الهَرَمِ

ومعنى البيت الاخير: أن مَن سبقنا من البشر قد جاؤوا أباهم "الزمان" وهو شاب فتيٌّ يقدر على إسعادهم فسرَّهم وفعلَ لهم ما يتمنون اما نحن فقد جئناه على هرمه وشيخوخته فلم يستطع فعل مع ما فعله مع اسلافنا، وهذا فهم غريب مع جماله وروعته، وهو معنى مبتكرٌ مع كثرة القائلين فيه وكأنه استل المعنى من البحتري استلالاً حيث يقول:

صحبوا الزمان الفَرْط إلاّ أنه

                          هرمَ الزمانُ و عزُّهم لم يهرمِ

والفرط من الزمان هي الايام القليلة، وازورك فرطاً اي اياماً معدودة. 

وما يزال الشعراء يقتبسون من نور من سبقهم فمنهم من يُفلح ومنهم من ينكص، ومن اؤلئك الذين اخذو فأحسنوا أبو الفتح البستي حين اقتبس معنى المتنبي اقتباسا رائعاً فأحسن في إعادة صياغته حين قال:

لا غروَ أنَ لم نجدْ في الدهرَ مُخْترَفاً

                                 فقد أتيناهُ بعد الشَّيب والْخَرَفِ

اي اتيناه بعد ان خَتْرفَ اي صار يتخيل ويتوهم كناية عن ان الدهر شاخ وكبر وأثر بعقله قديمُ العهد وطول الأمد ....

غير اني اميل عن كل ما تقدم متبعاً سبيل عبدالرزاق عبدالواحد بلمحته الشعرية العظيمة حين قال واصفاً العراق:

هوَ العراقُ سَليلُ المَجدِ والحَسَبِ

                             هوَ الذي كلُّ مَن فيهِ حَفيدُ نَبي

كأنَّما كبرياءُ الأرضِ أجمَعِها

                                تنْمَى إليهِ فَما فيها سِواهُ أبي

هوَ العراقُ فَقُلْ لِلدائراتِ قِفي

                         شاخَ الزَّمانُ جَميعاً والعراقُ صَبي

أقول قولي هذا وانا ألملمُ حالي وأتجهز للرحيل من جديد بعيداً عن أبينا العراق، فالعراق للعراقيين الْين وأحلى وهو بأبوتهم أجدر وأولى

0/أرسل تعليق

أحدث أقدم