نبراس المعموري
اجمع مختلف الباحثين في مجال الفكر السياسي، على اعتبار التجربة التاريخية التي مرت بها المجتمعات الاوربية على مدى القرنيين السابع عشر والثامن عشر وما ترتب عليها من اسهامات فلاسفة عصر الأنوار في رسم افق ثقافي و فكري جديد، بانها الإطار العام الذي احتضن ظهور فرضية المجتمع المدني لأول مرة واصبح جزءاً من النظرية السياسية الغربية حول الديمقراطية. وبهذا الصدد عرف البنك الدولي المجتمع المدني Civil Society أنه” مجموعة واسعة النطاق من المنظمات غير الحكومية والمنظمات غير الربحية التي لها وجودٌ في الحياة العامة وتنهض بعبء التعبير عن اهتمامات وقيم أعضائها أو الآخرين”. ومن ثم يشير مصطلح منظمات المجتمع المدني إلى مجموعة عريضة من المنظمات، تضم: الجماعات المجتمعية المحلية، والمنظمات غير الحكومية، وجماعات السكان الأصليين، والمنظمات الخيرية، والنقابات العمالية والمهنية، ومؤسسات العمل الخيري” أن أهم نتيجة تمخضت عن التجربة التاريخية التي مرت بها المجتمعات الاوربية ، هو ما يعرف بنظرية التعاقد، وهي نظرية أرسى مبادئها الأولى، مفكرون كبار، أهمهم: توماس هوبز وجون لوك في إنجلترا، وجان جاك روسو في فرنسا، وتنادي نظرية العقد الاجتماعي بالتحديد بأن الأفراد يقبلون بشكل ضمني أو صريح أن يتخلوا عن بعض حرياتهم ويخضعوا لسلطة الحاكم أو لقرار الاغلبية مقابل حماية بقية حقوقهم، ومن ثم فإن العلاقة بين الحقوق الطبيعية والشرعية هي في العادة مبحث من مباحث نظرية العقد الاجتماعي، وقد أخذ المصطلح اسمه من كتاب العقد الاجتماعي لجان جاك روسو الذي ناقش من خلاله هذا المفهوم.
عقد اجتماعي
لقد اسهمت نظرية العقد الاجتماعي في التأسيس لمفهوم المجتمع المدني، من خلال التركيز على ثلاثة قيم هي:
ـ قيمة الفرد المواطن باعتبارها قيمة عليا مطلقة و مقدسة، خاصة حق الحياة وحرمة الجسد والملكية، وحرية التفكير.ـ قيمة المجتمع المتضامن الذي يتميز بقدرة أفراده على الالتزام بالمستلزمات الأخلاقية والقانونية الاساسية لتأسيس الجماعات المدنية.ـ قيمة الدولة ذات السيادة والتي لا يتم بلوغها إلا إذا اعترف المجتمع بها، واعتبر السلطة والحقوق الناتجة عنها حقوقا مشروعة و مقبولة.لقد أفضت النظرية إلى تحول الفرد إلى مواطن له حقوق وعليه واجبات في مقابل الحاكم ، وبهذا المعنى اصبح المجتمع المدني تعبيراً عن وعي الفرد بحقوقه في مواجهة السلطة، ورغم ان منظري “العقد الاجتماعي” اكدوا وبحثوا في ماهية انفصال المجتمع المدني عن الدولة، إلا أن الفيلسوف الالماني “هيجل” انكر نظرية العقد الاجتماعي لعدم قدرة المجتمع المدني على تحقيق الفاعلية دون الدولة، وقد استفاد ماركس” بعد ذلك من فكرة “هيجل” في رؤيته للدولة معتبرا انها مرحلة وسيطة تزول باقامة النظام الشيوعي، مما يدفع إلى زوال المجتمع المدني.
الا ان بدايات القرن العشرين برز تحول جديد في مفهوم المجتمع المدني، وعاد إلى الظهور مجددا ، مع اليساري انطونيو غرامشي الذي فرق بين المجتمع المدني والمجتمع السياسي، من خلال تأكيده على دور “المثقف العضوي “ لمحاولة فرض هيمنة المجتمع المدني في مقابل سيطرة المجتمع السياسي.
فاعتبر المجتمع المدني بنقاباته، وأحزابه، وحتى الفاتيكان مجالاً للصراع الطبقي، وتحقيق الاشتراكية بانهاء سيطرة الدولة-السلطة.وانطلاقا مما سبق ولاتساع فاعلية المجتمع المدني، ولاختلاف الانظمة السياسية التي يعمل في اطارها ثقافيا، واجتماعيا، وسياسيا، فان حركة المجتمع المدني تختلف باختلاف طبيعة النظام، والادوار التي يطلع بها، و يمكن تقسيم ذلك إلى نمطين:
الاول : نمط يبرز في النظم الديمقراطية، فيقوم بدور وظيفي مكمل لوظائف ومسؤوليات الدولة، وتصبح منظمات المجتمع المدني وسيط ، بين المواطن والدولة ، وهذا النمط هو تعبير عن نظرة غربية في ظل وجود مؤسسات متبلورة في المجتمع . ثانيا: نمط يبرز في النظم الاستبدادية (النمط الغرامشوي) في اطار مقاومة حركات المجتمع المدني في أوروبا الشرقية للأنظمة الشيوعية المستبدة، ويقوم هذا النمط على اعتبار المجتمع المدني مقاوما للتسلط.
اداة تحليلية
ما اشرنا اليه يدلل على ان المجتمع المدني اصبح اداة تحليلية لتفسير الظواهر الاجتماعية ومن ناحية اخرى هو معيار لقياس تطور المجتمع كونه لا ينفصل عن حركة المجتمع الحديث وتطوره، وما يستجد من تطورات على علاقات أطرافه مع بعضها البعض وعلاقته بمجمله بالمجتمع السياسي، و كيفية التكيف مع المستجدات، الا ان المفهوم في السسيولوجيا السياسية اليوم يستعمل بمعان لا تتفق تماماً مع ما جاء به رواده الأوائل، سواء رواد النظرية التعاقدية، أو “هيغل” أو “الماركسيون”
.وهذا يحتاج تحليل وبحث اوسع سنتاوله لاحـــــــــــقا في مقالات اخرى .
إرسال تعليق