سوران

مشاهدات



نسرين ولها أديبة و قاصّة عربية  من تونس


بينما كانت أولى خيوط الشمس تتودّد إلى أوتاد الأرض وتنعكس على قممها الشاهقة، كان القائد سوران يُجهّز نفسه لخوض معركة حياته الكبرى في سريّة بالغة. لا بُدّ للنور أن يسطع في مدينته من جديد. فمنذ أن سيطر الظلام بشبكاته العنكبوتيّة الرّقيقة على عيون البشر، ساد الجور وتفاقم الفقر وسرت الأوبئة في أوصال البؤساء. أمّا الأسوأ من ذلك فهو انعدام الأمان؛ أن تمشي في دروب عيشك وقلبك يعزف سمفونية الخوف، أن تضع رأسك على وسادتك كل مساء ولا تقرّ أجفانك إلا بسهاد يرجّ بدنك رجًّا، أن تحاول الضحك بينما تبقى شفاهك مشدودة في تشنج لا غير وأسنانك مصطكّة في توتّر بالغ. 

عبثًا هو افتعالك للفرح في مجتمع يُعاني الأمرّين!

سوران ابن قرية "المنارة"، منذ ولادته وهو يحمل وسام الأبطال على كتفه الأيمن، فقد كان مُجاهدا في صغره يُمارس جميع ضروب الشّقاء من فلاحة وتجارة إضافة إلى واجباته المدرسية. ولمّا كبر واشتدّ عُوده انتقل إلى مدينة "كاميلا " ليكمل تعليمه ويتخرّج من الأكاديمية العسكرية. 

إنّ الريف يُعلّمك كيف تعتمد على نفسك في شتّى الأمور الضروريّة، إنّ كل نسمة هواء نقيّ تترقرق إلى رئتيك تكون مشبعة بمفهوم الرّجولة بدل الأكسجين. إنّه أكسجين من نوع خاص، رفيع جدّا، يجعل تشبّع جهازك التنفسي من الأكسجين ذا تركيز مُضاعف. فليس من الهيّن أن تُساعد في كلّ مصاريف البيت من أكل وشرب ولباس وحاجيات أخرى بينما لديك واجب حيوي تُجاه العِلم.

وبعد جهدٍ هائل أصبح سوران قائدا ضمن القوّات المسلّحة الخاصة لوطنه، لم يكتف بأن يكون مواطنا عاديا فيها، يتمتع بخيراتها ويكبر تحت لوائها، وإنما اختار الطريق الأصعب، الملآن بالأشواك الدامية، طريق الأبطال والشهداء، طريق السجادة الحمراء للأوسمة الذهبية والدرجات الرفيعة. لقد شاءه القدر أن يكون من حُماتها ومن حرّاسها. وإنّها لَنِعمَّ المشيئة!

لقد حان وقت التغيير، مثلما أعلنت كلّ جوارحه، حان وقت اقتلاع الرّصاص من جروح الوطن، فإمّا أن يبلغ قمة الإفرستين، أو أن يموت بشرف. إنّ وطنه يتلوّى من الألم، أُصيب في نخاعه الشوكي بسكاكين الخونة، تربّصوا بحريّته، بشموخه، أرادوا له الذّل بعد العزّة. فأنّى لِقلبٍ غيور على وطنه أن يرى المشهد الرهيب ولا تتحرّك في دمائه روح النخوة!

لبس سوران سترته العازلة للرّصاص، وتزوّد بسلاحه الرّشاش، ووضع كافة أسلحة المهمة في حقيبة  سوداء وضعها على كتفيه. ثمّ خرج إلى عساكره يعرض عليهم الخطّة المُسطّرة بدقة فائقة، والخطّة البديلة، وخُطط الحالات القصوى.

إنّ العدوّ هذه المرّة ليس بغريب عن الوطن، إنه للأسف الشديد متغلغل في ثنايا الوطن، إنه يُمثل الأنظمة الفاسدة التي باعت مصلحة الوطن الغالية بأثمان بخسة، ثم ماذا اشترت؟ لا شيء سوى الخيانة، العار والنِّقم. كيف لا وقد جاعت البطون من غلاء الأسعار وقلّة الأجور رغم ساعات العمل الطويلة، وانتشرت الأمراض بين الناس من سوء التغذية والضغط النفسي الكبير، وانحلت الأخلاق وتراجع التعليم.

لقد نفذ صبر الوطن مثلما ينفذ صبر الآباء على عقوق أبنائهم، والمعلّم على تمرّد تلاميذه. فلا بُدّ من صفعات قويّة ليستفيق انتباه المتمرّد ولا بدّ من إيقاف صارم للخارج عن القانون ولا بُدّ من معاقبة الخائن لحرمة الوطن. 

واليوم هو قيامة مدينته، حتّى وإن كانت المُهمّة سريّة لا تطالها عدسة كاميرا ولا تصفقّ لها الأيادي ولا تهتف ببطولتها حناجر الرجال، يكفي أن يباركها القدر ويُرفع حجاب الغمّ والكرب عن وطنه ليرفرف علَمه عاليا بمنتهى الحُريّة والسلام. 

كان سوران يتفنّن في تلقين عساكره كلّ ما يشدّ به الهمم حتّى لا تخار قواهم عند أوّل عرقلة تعترض طريقهم، ويُفصّل لهم طبيعة العدوّ وكيفيّة مُحاصرته دون إثارة بلبلة إعلاميّة أو شعبيّة، ويُحذّرهم من استعمال السلاح كيفا ما اتّفق لهم، بل يؤكّد بأن إطلاق الرّصاص على العدو يكون إلاّ عند الضّرورة المُلحّة، لمّا تكون حياتهم في خطر فادح، كأنْ يرفض المتّهم تسليم نفسه للعدالة بالحسنى وأن يرفع مُسدّسه في وجه الجنود. والحقّ أنّ كل خائن للوطن وسيادته يستحق أن يُسحق مثلما تُسحق الحشرات تحت الأقدام. هكذا كان صوت الغضب الذي يُزعزع كل كيانه يُملي عليه، لكن لحسن حظّ الأوغاد، أنّ سوران رجل يمتاز بأخلاق رفيعة لا تسمح له بأن يتجاوز القانون الذي قضّى ساعات طويلة في حفظه وممارسته طيلة فترة تعليمه بالأكاديمية العسكريّة. لقد أقسم على الوفاء ولن يسمح لأهوائه أن تنقض قداسة العهد.

0/أرسل تعليق

أحدث أقدم