مقتدى الصدر ينزع وجهه الأخير في الناصرية

مشاهدات



د. باهرة الشيخلي


بعد أحداث الناصرية طلع زعيم التيار الصدري بتغريدة مغايرة لخطاباته السابقة التي ادعى فيها حب الوطن والثورة على الفساد ودعا إلى كتابة ما سماه بميثاق شرف عقائدي لترميم البيت الشيعي.

ثورة أكتوبر جعلت من يتحدث بالطائفية منبوذا

أضحت مدينة الناصرية، مركز محافظة ذي قار العراقية، عاصمة للاحتجاجات العراقية، بعد أن نجحت القوات الحكومية في إزالة خيام الاحتجاجات من ساحة التحرير، وسط العاصمة العراقية بغداد.

اعترف المحتجون في بغداد بالناصرية عاصمة للاحتجاجات العراقية، عندما خرجوا يهتفون باللهجة العراقية “وهاي هيه وهاي هيه تبرد الثورة وتردها الناصرية”، ومعناها، لمن لا يعرف اللهجة العراقية: هذه هي الناصرية كلما خفتت الثورة أشعلتها الناصرية.

والواقع، أن الناصرية تمتلك مغزى تاريخيا عميقا في محاربة الفساد والدعوة إلى الإصلاح، ففيها أور السومرية مدينة الملك أورنمو قائد النهضة الإصلاحية ومؤسس أول شريعة قانونية في التاريخ، الذي استبق فيها حمورابي بثلاثة قرون، وفي هذه البقعة التاريخية نزل الشهداء إلى ميدان الحرية، معلنين بيان “المواطنة”، الهوية العراقية، لا فقه يعلو على الفقه الوطني، لا سنيا ولا شيعيا، والدين لله والوطن للجميع.

حيال كل وسائل التطويق المضاد والعنف المميت، الذي تمارسه أحزاب ولاية الفقيه وميليشياتها بقيت الناصرية متمسكة بالخيار السلمي، في تحقيق أهدافها الوطنية المشروعة لإقامة دولة المواطنة المدنية في منأى عن دكاكين الدين السياسي والوكالات الحزبية.. عراق واحد.. عراق الفقه الوطني، الذي يضم الشعب كله، وثورة هدفها إسقاط المحاصصة وهياكلها الدموية من منظمات إرهابية وأجنحة عسكرية.

اكتسبت الناصرية موقعها المتقدم في ثورة أكتوبر العراقية من مواكب الشهداء الذين قدمتهم من خيرة أبنائها، ومن إصرارها القوي على التغيير ورفض الفساد، ومن ثلمها للهيبة الفارغة لأحزاب الإسلام السياسي، ثم أخيرا مجابهتها لهجوم التيار الصدري، الذي يتزعمه مقتدى الصدر، وتمزيق صوره وصور أبيه المنتشرة في المدينة العابرة للطائفية والمتمسكة بعروبتها.

إن استخدام التيار الصدري والميليشيات التابعة له الأسلحة الخفيفة والبيضاء، الجمعة 27 نوفمبر 2020، ضد متظاهري الناصرية، وقتل ثمانية منهم، بينهم طفل دون سنّ الثامنة عشرة، وخلفت أكثر من 75 جريحا بعضهم في حالة حرجة بسبب الإصابات في الرأس والصدر، ويؤكد شهود عيان أنّ الميليشيات الصدرية كانت تتعمد إطلاق النار، بنحو مباشر، على المتظاهرين، جعل المركز العراقي لتوثيق جرائم الحرب يصف الاعتداء على المتظاهرين بأنه انتهاك خطير لحقوق الإنسان في العراق.

وجاء في بيان صدر عن المركز أن قادة الميليشيات يصدّرون “اللغة نفسها التي استخدموها في السنوات الماضية في أحداث العنف الطائفيّة وإصدار التصريحات المؤججة لخطاب الكراهية، الذي تسبب في انتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان في العراق، رغم وجود قانون في الدستور العراقيّ ومواد قانونية تجرّم هذا الخطاب وتدعو لمحاسبة مطلقيه”.

يقول كاتب عراقي كبير: إذا كان يستحيل على المزاج السني في العراق القبول بالصدر، لأسباب كثيرة، أبرزها ما تختزنه الذاكرة السنية من مشاهد مؤلمة وأحداث مأساوية، كان بطلها جيش المهدي، التابع له، فإن الجمهور الشيعي بات من الصعب أن يهضمه، خصوصا، بعد سلسلة مواقفه السياسية وتغريداته التحريضية ضد التظاهرات السلمية في بغداد ومحافظات الفرات الأوسط والجنوبية، وإقدام ميليشياته على قنص شباب مفعمين بالوطنية وعشاق للحرية، كما حصل في ساحة الحبوبي بالناصرية، وكل ذنبهم أنهم رفضوا الخضوع له وتمسكوا بمطالبهم الشعبية العادلة، التي لا يختلف عليها إلا أعداء العراق ودعاة الشقاق وحيتان الفساد وأباطرة التربح والتكسب والامتيازات.

و”ابن الصدرين”، كما يحلو له تسمية نفسه، هو أبرز هؤلاء، وأشدهم إيغالا في قمع المواطنين، وكأنه يريد التفوق على جرائم نوري المالكي وهادي العامري وقيس الخزعلي وباقر صولاغي وأبوفدك المحمداوي وأبوزينب اللامي وأبوآلاء ولائي وسرايا الخرساني وبقية شلة القتلة والجلادين.

نعم، كشفت الناصرية الغطاء المخادع، الذي كانت تتستر به أحزاب الإسلام السياسي، ومن ضمنها التيار الصدري، الذي وقفت بوجهه بقوة، وجعلت الكثير من أتباعه يتنصلون من الولاء له بعد أن وصلت مديته إلى محزّ رقابهم ورقاب أهاليهم، وكانت أول مدينة تصف هتافاتها زعيم التيار الصدري بأنه “عدو الله”.

ثورة أكتوبر جعلت من يتحدث بالطائفية منبوذا ثورة أكتوبر جعلت من يتحدث بالطائفية منبوذا

قدمت الناصرية، أيضا، الكثير من صور الوطنية العراقية وقصص حب العراق، لعل آخرها ما فعله والد الشهيد عباس حسين، الذي قتلته ميليشيا الصدر، حين تبرع بإعادة نصب الخيام التي أحرقها أتباع التيار الصدري في ساحة الحبوبي، وسط الناصرية، بدلا من إقامة مجلس عزاء لابنه الشهيد.

يتوقع الكاتب العراقي نواف شاذل طاقة، نتيجة ما حدث من هجمات ميليشياوية موالية لإيران على متظاهري الناصرية وقبلها الانتفاضة في البصرة وبغداد وسواها من محافظات الوسط والجنوب، أن أي انتخابات مستقبلية سيشهدها العراق لن تأتي سوى بأحزاب ما يسمى الإسلام السياسي، عدلا أم تزويرا، فهي، كما يصفها، أحزاب دموية فاسدة، مرتبطة بالأجنبي، لا ترتجى منها شفاعة.

بالمقابل، لا يتوقع أن تنتهي المواجهات بين الشعب وبين الطبقة السياسية الحاكمة، لذلك يقترح طاقة على المنتفضين تنظيم أنفسهم في إطار حركات أو تجمعات سياسية تساعدهم على بلوغ أهدافهم، ويقول إن “حزب الدعوة، والإخوان المسلمين، والصدريين، وجماعة الحكيم، ويساريي الأحزاب الدينية، أوجه لعملة واحدة فاسدة لن ترحل إلا بالعمل السياسي المنظم”.

وبعد أحداث الناصرية والعدوان على المتظاهرين طلع زعيم التيار الصدري بتغريدة تبدو مغايرة لخطاباته السابقة، التي ادعى فيها “حب الوطن” والثورة على الفساد والأحزاب الموالية للخارج، فقد عاد إلى “التخندق الطائفي”، ودعا إلى كتابة ما سماه بـ”ميثاق شرف” عقائدي وسياسي لترميم البيت الشيعي، إذ غرّد عبر تويتر، قائلا “في خضم التعدي الواضح والوقح ضد الله ودينه ورسوله وأوليائه من قبل ثلة الصبيان، في إشارة منه إلى المتظاهرين السلميين، أجد من المصلحة الملحة الإسراع بترميم البيت الشيعي، من خلال اجتماعات مكثفة، لكتابة ميثاق شرف ‘عقائدي – سياسي'”.

جاءت هذه التغريدة بعد سلسلة التغريدات التي هاجم فيها الصدر المتظاهرين واصفا إياهم بأنهم “جوكرية ومخربون”، وأوعز لعناصر من ميليشياته “سرايا السلام” بالاشتباك مع المحتجين في الناصرية، بعد أن كان يعدّ نفسه منهم وقائدا للمعارضة والإصلاح.

القيادي السابق في التيار الصدري، غيث التميمي، الذي سبق أن انشق عن الصدر قال إن “الصدر كلما اقترب من المفهوم الوطني، ابتعد عنه”، وأوضح بعد أحداث الناصرية أن “التيار الصدري يقوده شخص واحد، ولا توجد فيه شورى أو مجلس تنسيقي أو مجلس حكماء، بل إن توجهات الصدر هي التي تُطبق على أرض الواقع”.

وأشار التميمي إلى أن “الصدر أفلس تماما، وبات أمام طريق واحد، هو العودة إلى حشد ما تبقى من جمهوره، عبر الضرب على الوتر الطائفي، وتاليا فإن خسارته ستكون مدوية”.

لكن المتوقع أن الصدر لن ينجح أبدا في التحشيد الطائفي، الذي أشار إليه التميمي، لأن ثورة أكتوبر أفسدت هذا السلاح وجعلت من يتحدث بالطائفية منبوذا، كما أن الثورة، التي تسلمت الناصرية رايتها من المدن العراقية، لن تخمد بالرغم من جميع الاعتداءات الميليشياوية، فالثورة استقرت في نفوس العراقيين الذين أدركوا أن لا طريق سواها للخلاص مما هم فيه من مآس ومعاناة.

الناصرية تدق الأجراس، ويمتد صوتها من أور إلى نينوى وإلى جهات العراق كله، تدشن عهدا جديدا في تاريخ الحراك الوطني لتسقط، وإلى الأبد، أصنام القتلة.

الاحتجاج مرحلة أولية، وضعت له الناصرية الآن مسارا مغايرا يبدأ من الحاضر إلى المستقبل وحولته إلى خطاب ثورة، وأصبح الصدر معه كائنا متحفيا وفعلا ماضيا.

0/أرسل تعليق

أحدث أقدم